آراء

الكاردينال لويس روفائيل ساكو: أسوأ ما حدث للعراقيين المسيحيين في العشرين سنة الماضية

الملاحظات التالية ليس لها غرض آخر سوى المساهمة في فهم الواقع الحالي المتراكم، والدفع الى المراجعة الحكيمة والمتأنية من قبل الجميع لايجاد حلول عملية واضحة للصالح العام وخصوصا للمحافظة على المسيحيين والاقليات.
المسيحيون هم من صميم العراق، ومن أصل حضارته العريقة. يُشَكِّلون جزءاً أساسيّاً من النسيج العراقي الثقافي والاجتماعي والوطني والديني المتنوع، ومن إرثه الحضاري الكلداني، والاشوري، والسرياني، والعربي والكردي والتركماني واليزيدي والمندائي.
المسيحيون بطبيعتهم يُحِبّون الحياةَ والطبيعةَ والمعرفة. يُعرَف عنهم أنهم مُسالمون لا يَعتدون على أحد. يحترمون الآخرين، ويعدّونهم أخواتٍ واخوةً لهم. صِدقهم وإخلاصُهم يتكلم عنهم.
كلُّ مدرسة راقية، ومستشفى مهنيّ، وموظف أمين، ودار أيتام، ودار رعاية اجتماعية للمسنّين والمهمَّشين، ناهيك عن الجمعيات الخيرية وبخاصة “اخوية المحبة، كاريتاس”، يتحدث عنهم.
الماضي الجميل
هذه الارضُ مسيحيَّةٌ، قبل قدوم المسلمين اليها من شبه الجزيرة العربية في منتصف القرن السابع، وكانت مزروعة بالأديرة والكنائس والمدارس (طالع محمد سعيد الطريحي، الديارات والأمكنة النصرانية في الكوفة وضواحيها، بيروت 1981).
استقبل المسيحيون المسلمين الوافدين، وفتحوا لهم مدارسَهم، ومراكزَهم الثقافية، ومستشفياتِهم. وقاموا بترجمة العلوم اليونانيّة الى السريانيّة والعربيّة في “بيت الحكمة”، وتصديرها الى الغرب. كذلك أشير الى الدور المؤثر للوزراء المسيحيين السابقين، والاطباء والصيادلة، والاقتصاديين والقانونيين، والأدباء والفنانين والموسيقيين، والمهندسين والمؤرخين واللغويين، والآثاريين والعاملين في السياحة (الفنادق والمطاعم)، فضلاً عن البَنّائين المَهَرة الذين بَنوا العديد من مساجد المسلمين لا سيما في الموصل.
كثيراً ما يردد المسلمون على مسامع المسيحيين: “أنتم ورودٌ، وملحُ الارض“، وما إطراء القرآن الكريم لهم:“لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى” (سورة المائدة 82) و“في قلوبهم رأفة ورحمة” (سورة الحديد 27)، إلا إنعاكسٌ لأخلاقهم. أما ينبغي المحافظة على هذا “الكنز” وعدم إضاعته!
كان الخلفاءُ يُناقشون مشاكل الناس، ويحلّونها أمام دارهم، أو في المسجد أو في الساحة العامة وفقاً لقانون عرفي تم تناقله، وبأسلوب نموذجي لتحقيق العدالة! أين نحن من هذا النموذج!
يبدأ تاريخُ بلدٍ ما عندما يكتسب حرّيتَه واستقلالَه على أرضه. وعندما يُقرّ “دستوره” الخاص، وقوانينه، ويحترم معايير العدالة، وحقوق الانسان والحريات. هذه قواعد جوهريّة لقيام مجتمع منسجم بكامل حقوق المواطنة.
الحاضر المرّ والمستقبل الغامض
دفع المسيحيون ثمناً باهضاً خلال العشرين سنة الماضية. وستبقى أوجاعُهم حيّةً في ذاكرتِهم لسنين عديدة.

  1. ما فعله عناصر الدولة الإسلامية (داعش) في حزيران وآب سنة 2014،بتهجير 120 ألف مسيحي من الموصل وبلدات سهل نينوى. وفي فترة النكبة التي طالت ثلاث سنوات ، وقفت الكنيسة وحدَها الى جانبهم وجانب العديد من العائلات المسلمة، وقدَّمت لهم المعونات ولا تزال. وبعد التحرير2017 سنة، أصلحت البيوت والمدارس والكنائس، في حين لم تقدم الحكومة المركزية لهم شيئاً، بل تركتهم أمام خيار الهجرة أو مواجهة مصيرهم وكأنهم غرباء عن البلد.
  2. عمليات خطفٍ وقتلٍ وفديةٍ، ومن بينهم رجال دين، وخطابات الكراهية، وحالات تغيير ديانتهم بالإكراه، والاستحواذ على مقدَّراتهم وبيوتهم وأملاكهم، وسيطرة ميليشيات مسلحة (بخاصة بابليون) على بلداتهم في سهل نينوى وهيمنتها عليها من أجل المكاسب الماديّة والسياسية، جعل عدداً من المهجَّرين يرفضون العودة اليها، مفضّلين البقاءَ في إقليم كردستان!
  3. فصيل “بابليون” المسلح. من المؤسف ان الحكومات المتعاقبة تخلَّت عن المسيحيين بسبب التنافس على الكراسي “المُحاصصة” والمنافع الخاصة والفساد المستشري. وسلَّمت عملياً بقرار سياسي شؤون المسيحيين ومقدَّراتِهم الى فصيل “بابليون” ، المدعوم منها ومن جهات اخرى، لينفرد بها.
    قول بعض المسؤولين بان الصراع مسيحي – مسيحي، كلام فارغ، انما الصراع هو بين فصيل بابليون المنتمي الى الحشد الشعبي والذي يرأسه المدعو ريّان، والذي يدَّعي انه مسيحي وكلداني، لكنه بعيدٌ كليّاً عن الأخلاق المسيحية الحقّة، وديدنه تزييف الحقائق، وأكاذيبه لا تنتهي. فقدان الانسان أخلاقه، فقدان لذاته.
    الشعب المسيحي يرفض ان يكون “ريّان” وليَّ أمرهم. من المؤسف جداً انه استطاع بطرق خبيثة من كسب ولاء بعض رجال الدين بامتيازات مالية، لنقل الصراع بينه وبين الكنيسة الكلدانية الى صراع داخلي بين الكنائس، لكن هيهات لان الكنيسة الكلدانيّة واعيّة بذلك وكذلك معظم الكنائس. والمسيحيون قاطبةّ يرفضونه ويصمدون في وجهه.
    المسيحيون يُميّزون الاشخاص الشرفاء من الانتهازيين، اي “الراعي الصالح من الأجير” (يوحنا 10/ 11-12)، ولا يسمعون الى من يسيِّرونه! وهذه المواقف تبقى في ذاكرتهم.
    4.سحب المراسيم. قرار رئيس الجمهورية د. عبد اللطيف رشيدبسحب المرسوم (147) من رئيس الكنيسة الكلدانية بضغوط من رئيس ” بابليون” ونوّابه الأربعة، ثم من بقية الأساقفة استهداف للمسيحيين، بالرغم من أن فخامته كان ملزماً باحترام هذه المراسيم التاريخية التي اكتسبت صفة الشرعية (بعد مرور كل هذا الوقت على صدورها)، حتى وإن لم يكن هو قد أصدرها؟ هذا القرار المتسرّع، وغير المسبوق من رئيس الجمهورية لم نكن نتخيَّله!
  4. كيف لا ينتقل فكرُنا الى أنين عرس قره قوش (ايلول 2023)، كيف انقلب الفرح الى مأتم، والحياة الى موت (133 قتيل وعدد من الجرحى)، و لا يزال يُردَّد بان الحادث عرضيٌّ!
    هنا أتساءَل أما كان على من أغمضوا أعينهم بحفنة من المال، إعادة النظر في كلّ شيء بحسٍّ نقديّ؟
    هذه الاعتداءات “العلنية” وغيرُها هجَّرت أكثر من مليون مسيحي. معظمُهم من النُخبة الفكريّة والاقتصاديّة والمهارات، ولا يزال نزيف الهجرة يجري، وقد يذهب الى افراغ البلد منهم ومن الأقليات خلال بضعِ سنوات!!
  5. موقف الحكومة والحلول
    موضوع بهذه الخطورة والاهمية يتحتم على الحكومة الحاليّة، ان تتحمل مسؤوليتها الوطنية والقانونية، باتخاذ تدابير عملية، ملزمة لإنصاف المسيحيين وانقاذهم ومعالجة أوضاعهم بحزم، واستعادة أملاكهم المغتَصَبة، وإجراء تحقيق مع المسيئين اليهم، يتناسب فيه العقاب مع الإساءة، والتعويض مع حجم الضَرر، وطمأنَتهم بمستقبل أفضل في العيش الكريم والآمن على أرضهم!
    أول التدابير هو سحب الميليشيات، بخاصة “بابليون” من بلدات سهل نينوى، وإحلال الشرطة الاتحادية محلّها. هذا ما كنتُ قد طالبتُ به الحكومة السابقة، وطالَبَ به أساقفة سهل نينوى الحكومة الحاليّة. هذا الإجراء هو بدايةُ الحلّ. وليتفرَّغ فصيل “بابليون” الى العمل ضمن ضوابط الحشد الشعبي، والانصياع الى أوامر القائد العام للقوات المسلحة، وترك شؤون المسيحيين لحلها عن طريق الحوار والشراكة، بإرادة طيبة وليس بالاقصاء.
    بالرغم من كل هذا الظلم والألم، لا يزال للمسيحيين “الأمل”، بان الغلبة ليست للظلم والفساد والكذب، بل للحق و الصدق والعدل، ولابد أن تشرق الشمس من جديد، ويعود السلام والامان، الى بلادنا، وينعم الناس بالخير.
    من جهتنا، لن نستسلم للشرّ، ولن نفقد الرجاء لأن “قضاء الله” لا بد أن يأتي في النهاية وهو الضامن للحق عندما تعجز عدالة البشر!

جميع المقالات تعبر عن رأي كتابها ولا تمثل يورو تايمز

زر الذهاب إلى الأعلى