بعد الجيش.. تغييرات جذرية داخل المخابرات الفرنسية
تخضع المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي، التي تُعتبر وكالة المخابرات الخارجية للبلاد، منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لعملية إعادة تنظيم داخلية غير مسبوقة لتنفيذ نموذج متكامل يجمع بين التحليل والتقنية والعمل، فيما يُشبه ثورة قصر مُصغّرة في قلب المخابرات الفرنسية.
ويُشارك في هذه الثورة مجلس الدفاع والأمن القومي، لينتهي بذلك التنظيم المجزأ والعمودي الذي كان سائداً في الاستخبارات ليحلّ مكانه ثقافة هيكلية جديدة أكثر فاعلية، وذلك بعد اكتشاف ثغرات خطيرة في الجهازين العسكري والاستخباراتي لفرنسا.
وتعود هذه التغييرات إلى ما وصفه بعض صُنّاع القرار في الاليزيه بعار الفشل في توقّع اندلاع الحرب الشرسة بين موسكو وكييف، فضلاً عن تنامي مشاعر العداء ضدّ الجيش الفرنسي في أفريقيا، وهو ما استدعى إصدار الرئيس إيمانويل ماكرون قبل نحو أسبوعين لقانون البرمجة العسكرية الذي خصّص ما يزيد عن 400 مليار يورو للقوات الفرنسية خلال الفترة القادمة لتكون متناسبة مع حجم المخاطر الكبيرة التي قد تتعرّض لها البلاد، وذلك فضلاً عن مضاعفة ميزانيتي مديرية الاستخبارات العسكرية ومديرية الاستخبارات والأمن الدفاعي.
وتسببت عملية إعادة التنظيم لوكالة المخابرات الخارجية إلى زعزعة التوازنات الداخلية وكسر البارونات التي شكلت هذه المؤسسة منذ ما يزيد عن أربعين عاماً. وقد نتج عن ذلك لعبة كبيرة من الكراسي الموسيقية في عالم المخابرات الفرنسية حيث كانت السلطة والقيادة تتركز في أيدي الإدارة العامة للخدمة التي يشغلها حالياً الدبلوماسي برنار إيمييه كمدير المديرية العامة للأمن الخارجي، وتحطّمت بالتالي فكرة وجود وكالة استخبارات فنية مستقلة، على غرار وكالة الأمن القومي الأمريكية.
وأدّى هذا الإصلاح الجذري إلى اختفاء القسم المهم في المديرية العامة للأمن الداخلي، وهو قسم المخابرات الذي كان يرأسه مارك بيموند منذ عام 2016 كقوة داخلية حقيقية مُضادة، وهو خبير في العالم العربي وسبق أن عمل بنجاح خارج فرنسا، إلا أنّ فشل باريس في توقّع الأزمات السياسية في مالي وموجات الاستياء المُتصاعدة في أفريقيا تجاه فرنسا، لا سيما في بوركينا فاسو، لم تُساعد بيموند في الدفاع عن بقاء هذه المعقل.
وبالمثل، فإنّ الاستهانة بخطر اندلاع حرب في أوكرانيا شكّل فشلاً آخر للمخابرات الفرنسية، التي جادلت بالمقابل بأنّها كانت تُركّز على القتال ضدّ الشبكات الجهادية كأهم أولوياتها، ولذلك فإنّ العديد من العملاء الذي كانوا يعملون على الصعيد الروسي كانوا قد انضموا إلى عمليات استخبارية أخرى.
كما يعود اختفاء قسم المخابرات في المديرية العامة للأمن الداخلي، لوجود ثقافة سرّية وصفت الفشل الذي حصل على صعيد الحرب الروسية-الأوكرانية بالعار، حيث كانت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا قد شاركت معلوماتها حول التهديدات التي كانت تستهدف كييف مطلع العام الماضي، ومع ذلك، فقد تمّت قراءة ذلك بشكل مختلف، حيث أكد الأميركيون والإنجليز وجود هجوم روسي مفروغ منه، فيما كان الأوروبيون يفكرون في إمكانية التفاوض دون اقتناع بحدوث حرب، وهو ما قسّم أجهزة المخابرات الغربية.
ولا زالت الحرب الدائرة في أوكرانيا تشغل صُنّاع القرار السياسي والعسكري في فرنسا، إذ تتصاعد التساؤلات حول مدى قدرة الجيش على مواجهة حرب طاحنة، ولذلك فإنّ البلاد تستعد نهاية شباط/فبراير الجاري لإجراء أضخم تدريبات ومناورات عسكرية منذ نهاية الحرب الباردة، سوف تستمر لغاية أيار/مايو 2023، حيث خلص تقرير استراتيجي أمني إلى ضرورة الاستعداد لنزاع عسكري كبير، وذلك بعد نحو 20 سنة من خوض الجيش الفرنسي لمعارك غير متكافئة مع جماعات مسلحة أغلبها جهادية، ولكن ليس مع دول وجيوش نظامية.