سحبان فيصل محجوب: متلازمة الكهرباء.. الحل عراقي
كما هو معروف أن استمرار حالة التجهيز المستقرة للتيار الكهربائي من دون انقطاع أو تذبذب يعني الاداء المطلوب لجوانب المنظومة الكهربائية العاملة كافة، ويعد هذا انعكاساً لمستوى كفاءة العاملين في هذه المنظومة وكذلك لدرجة الوثوق العالية للمكائن والمعدات المختلفة المستخدمة في محطات إنتاج وتحويل الطاقة الكهربائية وما يتبعها من شبكات نقل وتوزيع ومراكز خاصة بالسيطرة وإلى حدود مراكز الصيانة والتشغيل الملحقة بها
والمنتشرة على امتداد الشبكة الوطنية للكهرباء ، يمتلك العراق قدرات كبيرة لتأسيس منظومة كهرباء متكاملة كما يمتلك شروط تدعيم هذه المنظومة وتطويرها إذا ما سخرت لها الموارد المادية والبشرية المتاحة على وفق الخطط السليمة القادرة على ضمان استغلالها بوساطة وضعها في القنوات المناسبة التي تؤمن الحصول على نتائج واضحة وملموسة باتجاه تحقيق الاداء الامثل لحلقات المنظومة الوطنية للكهرباء وتطويرها كافة، وهذا لا يعني غلق الأبواب أمام الإمكانات الخارجية الداعمة المشروطة بما ينسجم والثوابت المعروفة في مفاهيم السيادة الوطنية، وتغليب الأهداف الأساس في تحقيق أمن المجتمع ورفاهيته على أية اعتبارات أخرى.
أدخل الإنكليز الكهرباء إلى العراق في العام ١٩١٨ ومنذ ذلك الوقت ولحين اكتمال البنية الأساس لها تصدرت المنظومة الكهربائية العراقية الموقع المتميز على صعيد المنطقة وذلك نتيجة لإنجاز خطوات تنفيذية بمسارات محكمة ومتعاقبة ساهمت فيها العديد من الشركات الاستشارية المتخصصة وعشرات من الشركات الأجنبية المعروفة وبمشاركة الملاكات العراقية في تنفيذ المشاريع ذات الصلة والتي كانت محصلتها إنشاء منظومة كهربائية ذات كفاءة متقدمة ووثوق عالٍ ظهرت ملامحها في ثمانينيات القرن الماضي إلا أن العدوان الذي شنته القوات الأميركية على العراق سنة ١٩٩١ كان وراء حدوث انهيار شبه تام لها نتيجة الضرر الكبير المتعمد الذي لحق بالمحطات العاملة، آنذاك، جراء القصف المباشر من القوات الغازية والذي شمل معدات الشبكة الكهربائية كافة، عقب ذلك انطلقت فعاليات حملة إعادة إعمار ما يمكن من هذه المعدات المدمرة بهدف توفير التيار الكهربائي للخدمات الأساس التي يحتاجها المواطن وذلك بالاعتماد على الموارد المحلية وتسخير الطاقات البشرية المتمرسة من العراقيين حصرا ً والتي أبدعت في إحلال البدائل المصنعة أو المحورة في اعمار المعدات الكهربائية المختلفة في ظل حصار اقتصادي جائر (١٩٩١-٢٠٠٣ ) إلى ان وقع الاحتلال البغيض سنة ٢٠٠٣.
إن ما تحقق من نجاحات مشهودة في حملة اعمار قطاع الكهرباء يعود إلى المستوى المتميز للمهارات العراقية التي تم إعدادها وتطويرها قبل حدوث العدوان سنة ١٩٩١، وذلك نتيجة لحرص المعنيين في إدارة هذا القطاع، آنذاك، على إشراك الملاك الوطني في تنفيذ المشاريع المحالة بعهدة الشركات الأجنبية وتضمين العقود الخاصة معها بوجوب حضور الجانب العراقي الفعاليات التنفيذية كافة والمشاركة في إجراء الفحوصات المعملية والميدانية الخاصة بالمعدات المستخدمة وذلك لتحقيق متطلبات سلامة التنفيذ على وفق بنود العقود المبرمة وتعزيز الخبرات الفنية المطلوبة للعاملين في القطاع فكان الدعم المتواصل لعمل الشركة العامة للمشاريع الكهربائية (الغيت بعد الاحتلال) من أجل تمكينها من تحقيق تلك الاهداف، وفي ظل إجراءات الحصار المفروض على العراق والتي بموجبها منعت المؤسسات العراقية المختلفة من استيراد الكثير من المواد والمعدات الحاكمة لضمان استمرار عملها مما نتج عنها حدوث النقص في الخدمات الأساس ولحقبة زمنية صعبة امتدت أكثر من عقد من الزمن، وكما هو معروف أن استمرار الأزمات يعد حافزا لابتكار الكثير من الحلول، من هنا جاء قرار استحداث الشركة العامة لتصنيع وحدات انتاج الطاقة الكهربائية وبرأس مال قدره ٥ مليارات دينار كان هذا في شهر آب من العام ١٩٩٩، باشرت هذه الشركة مهماتها بالاتصال مع مؤسسات متخصصة بهدف البدء بخطوات عملية في التصنيع وأبرمت عقوداً مبدئية لشراء أسرار المعرفة، إلا أن هذه الشركة اغتيلت بقرار إلغائها بعد الاحتلال سنة ٢٠٠٣ كما جرى في تصفية الشركة العامة للمشاريع الكهربائية، وبهذا حرم العراق من إحدى الفرص العملية في إحداث التطور الاقتصادي ومواكبة خطوات دول العالم المتقدمة في بناء قاعدة صناعية تكون إحدى منصات
الانطلاق الضرورية والفاعلة صوب تحقيق العديد من شروط الاعتماد الذاتي على الصناعة المحلية المتخصصة .
إن ما جرى عقب سنة الاحتلال ٢٠٠٣ ولحد اليوم من معالجات عقيمة لغلق ملف أزمة الكهرباء كان بعيداً عن الحلول الوطنية وبنحو متعمد حيث تعاقبت محاولات تغييب صناعة الكهرباء العراقية بوساطة عقود الإذعان طويلة الأمد لاستيراد كميات من الكهرباء الإيرانية الجاهزة وعلى وفق حالة غريبة تجاوزت فيها شروط الربط الكهربائي (تبادل الطاقة) المعروفة دولياً بالاضافة إلى ربط ضمان استمرار عمل العديد من محطات انتاج الكهرباء العراقية بتوافر الغاز الإيراني المستورد و اللازم لتشغيلها، كما أهملت الصناعات الداعمة للمنظومة الكهربائية بهدف تحقيق المصالح المادية الضيقة لأحزاب السلطة الحاكمة وذلك بالسيطرة على عقود تجارية لتجهيز لوازم ومعدات كهربائية غالبا ما تكون رديئة المواصفات والمنشأ يضاف إلى ذلك ما تم تنفيذه من صفقات كبيرة استنزفت فيها أموال طائلة لم تحقق شيئاً ملموسا على الأرض نتيجة لنصوص العقود الضعيفة التي يتم الاتفاق عليها مع الجهات المنفذة أو التعاقد على مشاريع ناقصة كما حصل في صفقة (الميكا ديل) المعروفة التي نفذتها شركة جي. اي الأميركية.
إن انحراف مؤشر البوصلة في معالجة الأزمات وفي مقدمتها مشكلة التجهيز المستمر والمستقر للطاقة الكهربائية عن الحلول الوطنية المتاحة يشير إلى وجود أجندات خارجية ذات أهداف اقتصادية وسياسية يجري تنفيذها بأدوات محلية تم تسخيرها للإبقاء على حالة استجداء الحلول من الدول المحيطة، بعد استبعاد الجهد الوطني المعروف بقدراته الفائقة في مواجهة التحديات الصعبة.
رئيس هيئة الكهرباء العراقية الأسبق