فرنسا توجه رسائل داخلية وخارجية بضخامة عرض عيدها الوطني اليوم
جادة الشانزليزيه «مسرح العمليات» بمشاركة 6300 عسكري وعشرات المدرعات والطائرات
باريس: ميشال أبونجم
ككل عام في 14 يوليو (تموز) تحتفل فرنسا بعيدها الوطني الذي يخلد ذكرى ثورتها عام 1789 التي أطاحت الملكية وأرسلت لويس السادس عشر وزوجته كاترين إلى المقصلة المنصوبة في ما سمي لاحقا «ساحة الكونكورد» (الوئام) التي تتوسطها المسلة الفرعونية. وهذه المسلة التي تزن 230 طنا بارتفاع 23 مترا والتي طلي رأسها باللون الذهبي هي هدية من خديوي مصر إلى الملك لويس فيليب الأول عام 1836، أي بعد 36 عاما على رحيل الجنرال نابوليون بونابرت عن بلاد النيل. وفي هذه الساحة الأكبر في باريس وفي ظل مسلتها، نصبت المنصة الرسمية التي تضم رئيس الجمهورية وكبار رجالات الدولة الفرنسية ورؤساء البعثات الدبلوماسية والضيوف الرسميين. وأمامها، ستؤدي الوحدات المؤللة والراجلة التحية لرئيس الجمهورية وفوقها تمر المجموعة الجوية الاستعراضية المشكلة من تسع طائرات «ألفاجت» وهي ترسم بألوان دخانها العلم الفرنسي ثلاثي الألوان (أحمر، أبيض، وأزرق) وتليها وحدات من الطائرات الفرنسية المقاتلة العاملة في إطار القوات الجوية والبحرية الفرنسية وذلك في خط مستقيم انطلاقا من «القوس» الأبيض في منطقة «لا ديفانس» مرورا فوق قوس النصر ووصولا إلى ساحة الكونكورد.
ووفق الدستور الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة والجهة التي تضغط على الزر النووي، كما أن الدستور يعطيه حق رسم السياستين الخارجية والدفاعية اللتين تعمل الحكومة على وضعهما موضع التنفيذ.
ويعد تحليق الطائرات نقطة الانطلاق للعرض العسكري الذي تستضيفه جادة الشانزليزيه التي يعتبرها الفرنسيون «أجمل جادة في العالم» وذلك منذ عام 1980. ويجذب الحدث، عاما بعد عام، آلاف السياح وعشرات الآلاف من الفرنسيين والجميع يتحلقون على جانبي الجادة للتمتع بهذا العرض الذي لا مثيل له في أي من بلدان أوروبا الغربية. ومنذ أسبوع، نصبت الحواجز المعدنية لاحتواء المشاهدين ومنعهم من الاقتراب من وسط الجادة كما عمدت المخابرات الداخلية إلى مراجعة جميع الإجراءات الأمنية لحماية رئيس الجمهورية الذي ينزل الجادة في سيارة عسكرية، وإلى جانبه قائد موقع باريس العسكري. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس الأسبق جاك شيراك تعرض لمحاولة اغتيال قام بها شخص بإطلاق النار من بندقية خبأها داخل ثيابه. إلا أن شيراك لم يصب بأذى. وحوكم الجاني لاحقا وأودع السجن.
تبين بعض الأرقام ضخامة العرض الذي دعا إليه الرئيس إيمانويل ماكرون في عام 2018، الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب. وأعجب الأخير بما شاهده إلى حد قوله علنا أنه سيطلب من وزير دفاعه تحضير عرض مماثل في العاصمة واشنطن، بمناسبة العيد الوطني الأميركي.
ويحصل العرض وسط إجراءات أمنية مشددة في محيط الدائرة الثامنة حيث تقع جادة الشانزليزيه، وفي مختلف دوائر العاصمة.
بيد أن ما يميز العرض هذا العام هو الإطار السياسي الداخلي والجيو ــ سياسي الخارجي.
فداخليا، خرجت فرنسا من حملتين انتخابيتين متلاحقتين (رئاسية وتشريعية) الأولى خرج منها الرئيس ماكرون منتصرا، لكن كتلته السياسية لم تفز بالأكثرية المطلقة في البرلمان، ما يجعله وحكومته في وضع ضعيف بالنظر لما كسبته المعارضة اليسارية واليمينية، خصوصا المتشددة والمتطرفة منها. لكن هامش المناورة في المجالين الخاصين بالرئاسة لن يتأثرا بشكل مباشر. بالمقابل، لم يعد ماكرون الآمر الناهي في البرلمان كما كان حاله خلال عهده الأول «2017 ــ 2022» حيث كان حزبه (الجمهورية إلى الأمام) في أكثرية ساحقة مكنته من استصدار القوانين التي أرادها من غير عناء. بيد أن التطور الأهم يتناول الوضع الجيوسياسي وعنوانه الحرب الروسية على أوكرانيا التي بدأت في 24 فبراير(شباط) الماضي وما رافقها من تبعات إن على صعيد الاتحاد الأوروبي أو على صعيد الحلف الأطلسي. وفي الحالتين، كانت لها انعكاسات اقتصادية ومالية واجتماعية على فرنسا كما على غيرها من أعضاء التنظيمين. وانعكس ذلك مباشرة على العرض العسكري حيث قالت مصادر قصر الإليزيه، في معرض تقديمها للمناسبة إن العرض العسكري «يتأثر بطبيعة الحال بالوضع الاستراتيجي» الذي يطبعه حصول الحرب على الأراضي الأوروبية. وتعتبر فرنسا نفسها، كما بقية أعضاء الحلف والاتحاد معنية بها إن عن طريق العقوبات الاقتصادية والمالية التي تفرضها مع الاتحاد على موسكو أو من خلال المساعدات متعددة الأشكال المقدمة إلى أوكرانيا.
أما عسكريا، فإن الأسلحة التي قدمتها باريس وأهمها على الإطلاق منظومات مدفعية من طراز «قيصر» هي أفضل ما يمتلكه الجيش الفرنسي، وتساهم باريس بقوة مشاة في رومانيا في إطار «عملية النسر» الأطلسية التي تقودها، وجوية في دول البلطيق وتحديدا في أستونيا فضلا عن مشاركة طائراتها في حماية أجواء دول الجناح الشرقي للحلف الأطلسي. وللتدليل على ذلك بشكل ملموس، فإن أعلام ثماني دول أوروبية ستكون اليوم في مقدمة العرض وهي: أستونيا، ليتوانيا، لاتفيا، سلوفاكيا، المجر، تشيكيا، بلغاريا ورومانيا، وعناصر من هذه الدول ستشارك في العرض. كذلك، فإن طائرتي «رافال» يونانيتين، هما جزء من صفقة سابقة أبرمت مع أثينا، ستكونان جزءا من العرض الجوي. وبالتوازي، فإن أربع طائرات نقل عسكرية من طراز «إي 400 إم» تابعة لألمانيا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا ستشارك بدورها في الاحتفال، ما يدل على رغبة فرنسية لإبراز البعد الأوروبي والتضامن بين أطراف الاتحاد.
وقالت مصادر الإليزيه، بهذا الخصوص، إن العرض يدل على «التضامن الاستراتيجي بين أعضاء التحالف ويبين أن فرنسا ليست دولة معزولة».
في المحصلة، فإن 6300 جندي سيشاركون بينهم 4925 من المشاة، والآخرون ينتمون إلى الأسلحة الأخرى المختلفة (جو، بحر، درك، مدارس حربية…). يضاف إليهم 120 عربة مصفحة بينها عربة «جاغوار» الجديدة التي تعرض لأول مرة و61 دراجة نارية. وجويا، وفق وزارة الدفاع، تسساهم 25 طوافة من جميع الأنواع والمهمات و64 طائرة قتالية مع طائرات التزويد بالوقود جوا وطائرات الرادار. والجديد هذا العام أنه سيشهد للمرة الأولى مشاركة مسيرة (درون) من طراز «ريبير» الذي تصنعه مجموعة «جنرال أتوميكس» الأميركية ويراد منه إبراز الدور الذي تقوم به فرنسا في محاربة الإرهاب في منطقة الساحل حيث يتم الاعتماد أكثر فأكثر على المسيرات للمراقبة والاستهداف.
ومنذ أمس بدأ وصول السيارات المدرعة إلى محيط قوس النصر الذي هو نقطة انطلاق العرض الذي اتخذ «تشارك الشعلة» شعارا له لهذا العام. والمدهش أن وزارة الدفاع لم تلحظ أي مشاركة وإنْ رمزية للقوات المسلحة الأوكرانية الأمر الذي يبقى عصيا على الفهم. وأحد التفسيرات المقدمة أن التنظيم اكتمل قبل بدء الحرب أواخر شهر فبراير الماضي. كذلك، فإن فنلنده والسويد اللتين قبت عضويتهما في الحلف الأطلسي لن يكون لهما ممثلين في العرض. وفي أي حال، فإن العرض هو احتفال واحتفاء فرنسا بجيشها تكريما للمهمات التي يقوم بها خارج الحدود. من هنا، فإن عناصر منها ستكون حاضرة في العرض الذي يبدأ بحدود الساعة التاسعة وينتهي ظهرا.
aawsat