داود الفرحان: العالم بين فوضى الأزمات ونهش الأوبئة
يتوقع صندوق النقد الدولي أزمة عالمية بسبب تصاعد إصابات «كورونا»، واحتمال انهيار المنظومات الصحية في كثير من الدول محدودة الدخل. وتتوقع منظمة التجارة العالمية انكماشاً اقتصادياً يصل إلى 32 في المائة، ما يؤدي إلى تراجع نسبة النمو إلى أقل من 5 في المائة، في ظل الفقاعات الاقتصادية والركود المالي واختناقات التضخم وزيادة نسب البطالة. باختصار: العام الماضي -كما يقول الخبراء- أفضل من العام الجديد. وهذا أول خبر سيئ في عام 2022، ولكن نقول كل عام وأنتم بخير.
لكن الخبر الجيد بالنسبة إلى دول منظمة «أوبك»، هو أن أسعار النفط مستمرة في الارتفاع بشكل إيقاعي هادئ لا يثير الحسد. إلا أن الأمر لا يبدو كذلك في 90 دولة حول العالم تقدمت بطلبات للحصول على مساعدات مالية من صندوق النقد الدولي الذي لم يتردد في إعلان أن الأزمة الاقتصادية الدولية «لا مثيل لها» في السابق.
في التاريخ الاقتصادي العالمي أزمات اقتصادية خانقة منذ بداية القرن العشرين، أولها «الكساد الكبير» في عام 1929، مع انهيار بورصة «وول ستريت» في الولايات المتحدة، واستمرت عقداً كاملاً تم خلاله إعلان إفلاس نصف البنوك الأميركية، ووصل عدد العاطلين في ذلك الزمن إلى 15 مليون شخص في الولايات المتحدة، التي كان عدد سكانها آنذاك 122 مليون نسمة. ومن الطبيعي أن ذلك الكساد انتقل إلى دول العالم الأخرى، مثل جائحة «كورونا» التي تحولت إلى خبر يومي في الإعلام شرقاً وغرباً، مع كل فيروس ينتقل من مريض إلى آخر. لقد وصل العداد إلى أرقام فلكية في الإصابات حتى الآن، بمعدل مليون إصابة يومياً، ويتوقع أن يصل الرقم بعد فترة غير طويلة إلى 3 مليارات نسمة، وهو ما يعني أن كل نفوس العالم تقريباً، وصلتها «تحيات كورونا» بالعدوى اليومية، أو التعافي، أو الموت.
تتوزع الأزمات العالمية بين حروب وأوبئة وإفلاس، وتحتاج وقتاً لمعالجتها أو الحد من آثارها السيئة، وانعكاساتها الاقتصادية والسياسية والبشرية. ودائماً تحدث «جلطات» مالية في الأزمات الدولية، مثل حروب العراق وإسرائيل وأفغانستان واليمن وسوريا وليبيا، وخروج بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة، وكارثة «تسونامي» في جنوب شرقي آسيا، والتصعيد في العلاقات بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، وبين باكستان والهند، وبين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، و«سد النهضة» الإثيوبي، وسنوات القرصنة الصومالية في القرن الأفريقي على المحيط الهندي.
بل إن الأمر البسيط يمكن أن يُحدِث أزمة اقتصادية كبرى، تُعكر التجارة الدولية، مثل انحراف سفينة الحاويات البنمية العملاقة «إيفرغيفين» في قناة السويس العام الماضي، بعد أن واجهتها عاصفة رملية قوية تسببت في فقدان السيطرة على السفينة، وانسداد القناة فترة غير اعتيادية، ما أدى إلى تكدس السفن في طابور طويل لمدة أسبوع في انتظار حل المشكلة، وتوقف حركة الملاحة البحرية ذهاباً وإياباً في أهم شريان بحري في العالم. ووصف الكابتن بيل كافانا، المحاضر في الكلية البحرية الآيرلندية والقبطان السابق، عملية الإبحار عبر قناة السويس بأنها صعبة، «حين يكون هبوب الرياح ضد حاويات الشحن، ما يُصعب الموقف لسفينة ثقيلة محملة بعشرين ألف حاوية من البضائع»؛ لكن الخبرة المصرية المتراكمة استطاعت تجاوز الأزمة في وقت قياسي. وقد نالت هيئة قناة السويس تعويضاً من صاحب السفينة الياباني قدره 550 مليون دولار عن تعطيل مرور السفن، وتسبب السفينة في خسائر كبيرة لهيئة قناة السويس.
ومن الأبحاث المهمة عن مفهوم الأزمة، محاضرة للأستاذة في جامعة بابل العراقية، هدى عبد الرضا الجميلي، قالت فيها: «إن الأزمة تُعبِّر عن موقف وحالة وعملية وقضية تتلاحق فيها الأحداث، وتتداخل وتتشابك معها الأسباب بالنتائج وتتعقد، وقد تغيب الرؤية في لحظة حرجة وحاسمة».
وكنت أرجو أن يكون مثال العراق الحالي نموذجاً لأطول أزمة، بعد القضية الفلسطينية، عسى أن نجد مخرجاً داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، بعد أن تعددت التجارب والمشروعات والاتجاهات؛ لكن أغلب الظن أن الظروف الأمنية في العراق لا تشجع على تقديم دراسة كاملة وصريحة وشجاعة عن أكبر أزمة فوضوية عرفها العراق، منذ غزو المغول في عام 1258م، تركت بصمات ظاهرة في الإقليم كله، من احتلال عنيف، وفقدان سيادة الدولة، وانفلات السلاح، وانتشار الفساد المالي، والطائفية الدينية، وسوء الخدمات، وغياب القانون.
وينطبق تعريف الأزمة بكل أبعادها في القواميس على الحالة العراقية منذ 2003 حتى اليوم. إنها نقطة تحول وتوتر وخطورة وانفصام التوازن وغياب الدولة بمعناها السياسي والقانوني والدستوري، وهو أسوأ أنواع الأزمات الكارثية التي تمر بها الدول والشعوب. لقد وضع الأميركيون في احتلالهم للعراق البَيض كله في سلة واحدة مثقوبة؛ حين سلموا الحكم لعملاء إيران من دون مشورة الأمم المتحدة. اليوم يعضون أصابعهم ندماً، كما قال السفير الأميركي الأسبق في العراق زلماي خليل زاد، في حوار مع عمار الحكيم جرى في أربيل مؤخراً.
من جانب آخر، تهتم الصحف العالمية بأزمات الغذاء الدولية التي تتكرر سنوياً، واتخذت منظمة الغذاء والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) خططاً سنوية لقرع جرس الإنذار المبكر بشأن أسواق الغذاء، وتحليلات العرض والطلب لمحاصيل الأغذية الرئيسية، كالأرز والدقيق والسكر واللحوم والزيوت. وبدأت المنظمة في إصدار مؤشر قياسي عالمي لأسعار الأغذية الأساسية، حرصت فيه على الموثوقية وعدم التحالف مع السوق التجارية، والحرص على حماية الاستهلاك العام. وفي عام 2010 عندما بدأت أسعار الحبوب في الارتفاع بالأسواق العالمية، لجأت المنظمة إلى دعوة الدول المصدرة إلى اجتماع استثنائي لبحث العرض والطلب، وثبت أن هذه الاستجابة العاجلة أدت إلى ضبط الأسعار، ومنع أي قيود مصطنعة للتصدير أو الاستيراد. وتحولت هذه المنظمة من اجتماعات دولية روتينية ذات نتائج عابرة، إلى منظمة حيوية أقامت علاقات مستدامة مع الصندوق الدولي للتنمية الزراعية، والمعهد الدولي لبحوث سياسات الأغذية، وبرنامج الغذاء العالمي، والبنك الدولي، ومنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، وقطاع الأمن الغذائي في الدول التي يهمها الأمر. ولم يعد تقلب الأسعار في تجارة الأغذية «كابوساً» على الدول النامية يُنهك ميزانياتها ويُجوِّع شعوبها بلا قيود أو احترازات.
ومع ذلك، فإن بعض الدول التي يعمُّ فيها الفساد والاستغلال والاحتكار، يتم فيها تعمد عدم الأخذ بمشورة المنظمة أو أسعارها، لتحقيق أرباح غير شرعية، تماشياً مع الفساد العام فيها.
أكثر من ذلك، وبدافع تحقيق الشفافية، من أجل تعزيز الثقة بين المنظمة العالمية للأغذية والدول، عمدت إلى تأسيس منتدى الاستجابة العاجلة، يضم خبراء في مجال السياسات من الدول المصدرة والمستوردة، لبحث أي إنذارات بأزمات غذائية وتقديرات للمعلومات وتحليلات الأسواق الزراعية، فضلاً عن استحداث موقع تعاوني على الإنترنت، يتيح الوصول إلى معلومات الأسواق مجاناً، وتوقعات قصيرة المدى تتيح صنع قرارات أكثر مصداقية وفاعلية في حالات الطوارئ.
نحن والعالم الخارجي نحتاج إلى قانون أممي ملزم، لتنظيم واستقرار وإدارة مياه الأنهار المشتركة عابرة الحدود، فليس من حق دول المنبع أن تحتكر أو تحتجز مياه تلك الأنهار الدولية من دون قيود أو شروط، وكذلك تنظيم إقامة السدود والخزانات اللازمة، ومنع تغيير مساراتها إلا بموافقة الأمم المتحدة، والاتفاق على حجم المحطات الكهربائية التي تعتمد على هذه السدود، وفرض حقوق حصص متفق عليها من كميات المياه لكل دولة متشاطئة من المنبع إلى المصب، وإلزام دول المنبع بالانضمام إلى هذه الاتفاقية أو القانون أو خريطة المسارات النهرية. وأضع هنا خطوطاً تحت نهرَي دجلة والفرات وروافدهما من تركيا أو إيران، وكذلك نهر النيل.
نقلا عن الشرق الاوسط