عـادل درويـش: حزب المحافظين والرهان الطبقي
انتهى موسم المؤتمرات السياسية البريطاني بخطاب زعيم حزب المحافظين، رئيس الوزراء، بوريس جونسون قبل ثلاثة أيام. زعيم الحزب Leader ليس برئيس الحزب Chairman
ويرعى المنصب مؤقتاً اثنان، أوليفر داودون وزير الثقافة السابق، وبنيامين إليوت، منصب وزاري تأسس في 1911 وأول من شغله كان السير آرثر ستيل – ميتلاند (1876 – 1935).
رئيس الحزب، يتولى إدارة شؤون الحزب وتجهيز الحملة الانتخابية. أما زعيم الحزب، في التقاليد الدستورية البريطانية، فيحدد استراتيجية الحزب (بجمع أفكار مستشاريه ودراساتهم)، وهو الذي تستدعيه الملكة، الرئيس الدستوري للدولة، لتشكيل الحكومة عند فوز حزبه بأغلبية المقاعد البرلمانية في الانتخابات.
نوعية رئاسة الحزب الحالية، وكلمة زعيمه جونسون أمام مؤتمره السنوي في مانشستر، قلب الصناعة البريطانية حيث انطلقت منها الثورة الصناعية قبل 240 عاماً، لا يشير إلى توجه نحو إجراء انتخابات، بل يبدو كتجربة للاستمرار في توسيع القاعدة الانتخابية للمحافظين، واستمالة أصوات الطبقات العاملة التي كانت تصوت للعمال في العقود الماضية.
الإشارة الأخرى لاحتمال هذه السياسة التجريبية – والتي يقلد فيها الاستراتيجية الانتخابية الناجحة لرئيس الوزراء الأسبق توني بلير (زعيم العمال ما بين 1995 و2007) مثلما أشرنا في مقال الأسبوع الماضي – هي ردود الفعل من قطاعات مؤيدة تاريخياً للمحافظين، كمجموعات واتحادات الصناعات والاستثمارات التي عقدت عدداً من مؤتمراتها في الفترة نفسها.
وبعكس كلمة زعيم المعارضة العمالية، السير كيير ستارمر، في مؤتمره قبل عشرة أيام (والتي لم تفلح في رفع شعبيته، إذ لا يزال العمال متأخرين في استطلاعات الرأي عن جونسون والمحافظين)، التي صعب على المراقبين تحديد نوعية الجمهور المستهدف بها، فإن كلمة جونسون كانت موجهة بالأساس إلى أعضاء الحزب والدوائر التي صوتت للمحافظين في انتخابات 2019. وهذا الأسبوع أتاح أول فرصة منذ الفوز ليلقي جونسون، كزعيم الحزب، كلمة أمام المؤتمر السنوي العام؛ فقد أدت العزلة الصحية للوباء إلى إلغاء لقاء القاعات وقصر مؤتمر العام الماضي، ومؤتمر الربيع هذا العام على الفضاء الأثيري.
جونسون لم يحاول ارتداء قناع آخر – كما فعل خصمه العمالي ستارمر مرتدياً قناع بلير – أو تغيير جوهر الخطاب، أو حتى تغيير أسلوبه؛ بل ظل كما هو «بوريس» (وليس جونسون، فهو رئيس الوزراء الوحيد في تاريخ بريطانيا الذي يعرفه الشعب والصحافة باسمه الأول بوريس لا بلقبه «جونسون») المرح، الذي يلقي النكات والقفشات ويضحك مستمعيه على أنفسهم وعلى أصدقائه ومعارفه، ويرتجل، ويتلعثم. وفي ظني أنه يتعمد الارتجال والتلعثم ليقنع الناخب البسيط، المتوجس من نوايا الساسة، أنه حقيقي غير مزيف وأنه «واحد منهم». ورغم أن الرأي العام اليوم أسير هيستريا البيئة والتسخين الحراري والادعاء بأن الإنسان وحده مسؤول عن التغيير المناخي، فإن جونسون استهدف جماعة بيئية بهجومه اللاذع (غالبيتهم من أبناء الطبقات الوسطي والفئات الميسورة اجتماعياً واقتصادياً) تسمي نفسها insulate Britain وتعني «العزل» تطالب بأن تمول الخزانة (أي دافع الضرائب) عملية على نطاق واسع بتركيب المواد العازلة للحرارة في ملايين البيوت البريطانية – وبجانب شبه استحالة تنفيذ المطلب اقتصادياً بلا إفلاس البلاد، فإن مجموعة المحتجين لا تلقى تأييداً يذكر – سوى من الأقلية العالية الصوت صاحبة الضجيج من يسار المجموعات البيئية (وليس كلها) -، وتتعرض للانتقادات، وأحياناً لاعتداء الناس العاديين. فالمجموعة تغلق الطرق الحيوية أمام المطارات والموانئ وأنفاق تعتبر شرايين المرور حول العاصمة والمدن الكبرى. الحكومة لجأت عدة مرات إلى المحاكم لمنح البوليس صلاحيات توجيه تهم جنائية لهم، بسبب تعطيل مصالح الناس، وقطع أرزاقهم، بل وتعريض الأرواح للخطر بتعطيل مرور سيارات الإسعاف والأطباء. جونسون كان أول رئيس حكومة يقول في كلمته أمام المؤتمر إنه باسم الشعب يوجه الشكر لوزيرة الداخلية باتخاذ إجراءات قانونية لتحقيق أحد مطالب المحتجين «بعزلهم» في زنازين السجون، حيث يجب أن يظلوا، رغم أن حق التظاهر والاحتجاج جزء لا ينفصل عن الهوية القومية. العبارة التي لقيت امتعاض وإدانة اليسار الليبرالي من قراء صحف مثل «غارديان» (وهم لا يصوتون للمحافظين بأي حال) كانت ولا شك موجهة إلى ناخبي الطبقات العاملة والمناطق الفقيرة في مناطق الشمال الصناعي التي تمقت تحول حملات البيئة الخضراء التي عقيدة جديدة وسياسة أدت إلى قطع أرزاق الكثير منهم، وإلى أزمة في الطاقة في بريطانيا. قبل خطاب جونسون بيوم ألقى وزير المالية ريشي سوناك كلمته عن سياسته المالية ودعم الرعاية الاجتماعية، والتي كرر فيها «مؤهلاته» كداعم لـ«بريكسيت»، وقدرته على تنويع اللوائح وتطويرها لجذب مزيد من الاستثمارات بعيداً عن قيود المفوضية الأوروبية. جونسون في كلمته أشاد أيضاً بسياسات سوناك المالية والضرائبية؛ خاصة أن كلمة الأخير كانت أيضاً موجهة إلى الطبقات العاملة التي صوتت أغلبيتها لـ«بريكسيت»، بينما لصق المثقفون اليساريون الذين يقودون حزب العمال صفات كالجهل، والغباء، والعنصرية بمن صوت لـ«بريكسيت».
جونسون ووزير ماليته راهنا في كلماتهما على استمالة الطبقة العاملة على حساب فئات المستثمرين في الصناعة ورجال الأعمال بانتقادهما هذه الشرائح التي اعتمدت على العمالة الرخيصة من بلدان شرق أوروبا، مما أدى لخفض الأجور، وهو أهم أسباب تصويت الطبقات العاملة لـ«بريكسيت».
الملاحظ أن ممثلي المنشآت الاقتصادية التي هاجم جونسون سياستها في تخفيض الأجور رفضا مهاجمته وانتقاد المحافظين، رغم محاولات كثيرة من الصحافيين ومقدمي البرامج في الشبكات التلفزيونية استفزازهم بأسئلة انتقائية.
حسابات جونسون وسوناك أن شرائح كبار المستثمرين، الذين قد يغضبون من انتقادات المحافظين لهم علناً والتي تتهمهم بالجشع على حساب العامل البريطاني، يدركون أن هذه الفئات لن تصوت أبداً لحزب اشتراكي يهدد بتأميم الصناعات ورفع الضرائب، وعادة ما تهرب الاستثمارات والأموال فور تسلم العمال الحكم. مراهنة مماثلة من توني بلير وفريق العمال الجديد في انتخابات 1997 باستمالة صغار رجال الأعمال والمستثمرين وطمأنة البنوك بمانيفيستو انتخابي كان الأكثر بعداً عن الاشتراكية منذ تأسيس الحزب في 1900، وفي تسع مرات في الحكم، فجذب أصوات المحافظين والأحرار واحتفظ بأصوات الطبقة العاملة. لكن قسماً كبيراً من الطبقات العاملة صوت للمحافظين في انتخابات 2019، وهي الشرائح التي يراهن جونسون على الاحتفاظ، بها خاصة أن كلمته الخالية من وعود انتخابية لا تشير إلى تلهفه على إجراء انتخابات قبل نهاية الفترة البرلمانية دستورياً في 2024.