د. عبدالرزاق محمد الدليمي: العراقيون يطالبون اليوم بالعدالة الانتقالية
ابتداءا لابد من الاقرار ان مسرحية النظام الديمقراطي الذي ادعته واشنطن في العراق لم يكن على قائمة أولوياتها في البداية لكنه أصبح كذلك بعد أن أُجهضت كل الوقائع والحقائق ذريعة الغزو الأولى المتمثلةً بأكذوبة وجود أسلحة دمار شامل، فتحول الهدف حينها إلى تغيير النظام باعتباره يمثل نظاماً غير مرغوب به لانه يضر بمصالح امريكا والصهيونية ويجب إسقاطه،في حين لاتزال الولايات المتحدة تدافع وتدعم استمرار وجود انظمة تجاوزت بعدوانيتها وممارساتها اللا انسانية كل الخطوط الحمراء ،بما فيها اعلانها امتلاك اسلحة الدمار الشامل، وهذي الدول مثل نظام الملالي في ايران ،تهاجم مصالح امريكا وحلفائها غير آبهه لا بأقوى دوله بالعالم ولا بغيرها.
درس من مانديلا
ذكر المناضل الوطني الكبير نيلسون مانديلا ( زعيم جنوب إفريقيا الراحل، الذي كرس حياته لتوحيد شعبه عقب نهاية حقبة الفصل العنصري (أبارتهايد) عام 1994، منذ إطلاق سراحه عام 1990 بعد سجن 27 عامًا ) في مذكراته انه طلب من مرافقية ان يتجول معهم راجلين في ارجاء المدينة ووصلوا الى احد المطاعم فجلسوا وطلب كل منهم الوجبة التي يريدها وبينما كانوا في انتظار تقديم الطعام لهم ،وقعت عين مانديلا على رجل يجلس في طاولة مقابلة لهم وهو ينتظر ايضا تقديم الطعام له،فطلب مانديلا من احد المرافقين ان يدعو الرجل للجلوس معهم على نفس الطاولة،وفعلا جاء الرجل وجلس معهم دون ان ينبت أي منهم ببنت شفه،ولاحظ المرافقون ان الرجل يرتعش ويضع الطعام بصعوبه بفمه،ولما فرغ الرجل من اتمام ما استطاع ادخاله في فمه تركهم مسرعا،وهنا قال احد المرافقين لمانديلا ان الرجل لم يهنأ بطعامه لانه كان يرتعش رهبة من جلوسه مع رئيس الدولة ،ضحك مامديلا وقال لهم لا؟! لم يرتعش من جلوسه معي ..هذا الرجل كان سجاني في زنزانتي الانفرادية،وكنت بعد أن تنتهي فترات تعذيبهم لي اطلب منه قليلا من الماء كان يتبول في كأس الماء ويقدمه لي!!!!……وعندما رآني اعتقد اني سأنتقم منه ولكني سامحته..فليس من شيمة وخلق المناضلين الحقيقين اصحاب القضايا العظيمة ان ينتقموا من خصومهم في ألاوقات التي يعتقدون انهم اقوياء بالسلطة، والظلم يسلب كلاً من الظالم والمظلوم حريته، والشجعان لا يخشون التسامح من أجل السلام.
الاحتلال اصل القضية
قامت الولايات المتحدة بغزو العراق بشكل سافر دون تصريح من مجلس الأمن غير آبهه بالقانون الدولي الذي طالما تشدقت به في تنفيذ مآربها العدوانية ضد الاخرين ودون أن تتمكن من إقناع الاخرين بعملها البربري المشين كما لم تعطي فرص للدول التي ارادت مساعدة الشعب العراقي على التغلب على اوضاعة بعد الاحتلال، وأصرت امريكا المعتدية بشكل ملفت على الانفراد وحدها بأدارة العراق المحتل ولم تشرك الأمم المتحدة والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان بمعالجة الاوضاع المأساوية التي تسبب بها الاحتلال على الرغم من معرفة هذه الهيئات وخبرتها بقائمة عريضة من آليات العدالة الانتقالية، بالنتيجة جاءت التدابير التي اعتمدها الاحتلال الأمريكي بالنتائج الكارثية المعيبة التي لا أمل في إصلاحها، وتنكر الاحتلال الى ان حاجة العراق المحتل هو خلق مناخ وبيئة آمنة وسلطة شرعية تستمد ارادتها بشكل حقيقي من الشعب العراقي لتنفيذ استراتيجية شاملة تعكس احتياجات وأولويات العراقيين تتضمن العديد من التدابير التي تحد من حجم الاضرار التي ولها الاحتلال والعملية السياسية التي فرضها على العراقيين مثل محاكمة كل المجرمين الذين انتهكوا القانون بعد الاحتلال ودفع تعويضات لضحايا الاحتلال وأسرهم وانتهاج أسلوب متوازن وعادل للتحري عن الحقيقة والقيام بإصلاح مؤسسات الدولة والمجتمع التي خربتها الفوضى غير الخلاقة نتيجة الاحتلال.
مجرم الحرب بول بريمر
في خضم هذه الفوضى المتنامية التي زرعها الاحتلال في العراق لاسيما بعد تفتيت الدولة الاكثر تقدما في المنطقة وحل اجهزتها الامنية الكفوءة وجيشها القوي ومؤسساتها الرصينة ..وصل إلى العراق مجرم الحرب بول بريمر ليعمل رئيس لسلطة الاحتلال المؤقتة، وأصدر بريمر في الشهر الأول من توليه العمل العديد من القرارات التي اسست لدمار حياة العراقيين لحد الان لاسيما وان هذه القرارات جاءت متناغمة مع اهداف وسلوكيات الطغمة الحاكمة التي وصلت العراق خلف دبابات الاحتلال وتحديدا مصالح نظام طهران ، لقد فرضت اجندة بريمر لحد الان إرثا من الجرائم المرتكبة بحق الشعب العراقي وشرائح العلماء والكفاءات ولعل ابرز هذه الجرائم قرار اجتثاث البعث الصادر في 16 4 الماضي. مايو/أيار 2003 والذي حل بمقتضاه الجيش وغيره من قوات الأمن وعزل الكفاءات الكبيرة من مناصبهم التي انفقت عليهم الدولة العراقية الكثير من اموال الشعب ليعمروا ويبنوا ويقودوا بلدهم وحظر عليهم العمل في الدولة.
السلوك الانتقامي
معروف ان تطبيق مايسمى بآليات العدالة الانتقالية محددة بسقف زمني لايتجاوز في ابعد الحالات عن ثمان سنوت حيث يمكن للمجتمعات التي تتعافى من فترات الحرب وأن تتعامل مع الماضي بعدة طرق، إما بالتغاضي والقانون الدولي الإنساني فيه تجارب واسعة الانتشار بإصدار قوانين عفو عن مرتكبي هذه الانتهاكات، أو مواجهتهم وجهاً لوجه بملاحقة مجرمي الحرب، وإنشاء لجان للتحري عن الحقيقة وبدء برامج التحري وتطهير القطاع العام من مرتكبي الانتهاكات، وإجراء إصلاحات قانونية ومؤسسية اتساقا مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان وسن قوانين لتصحيح أشكال الظلم التي غالباً ما تكون وراء النزاعات.
أن اجتثاث البعث كان أداة لفرض عقوبات جماعية واستخدمت لمنع خيرة كفاءات الشعب من المشاركة في الحياة العامة والسياسية العراقية في المستقبل. كما ان إجراءات اجتثاث البعث كانت وما تزال مجحفة وغير شفافة، إذ ان الفصل بشكل تلقائي دون اتباع أية إجراءات أساسية سليمة قانوناً، مثل إخطار الشخص بالبلاغات المقدمة ضده، والحق في الاستماع لوجهة نظره قبل تنفيذ الفصل، أو الحق في بحث ملفه. ومن الناحية الفنية، كانت الاستثناءات ممكنة وكان من الممكن أن يعود الأفراد إلى مناصبهم ولكن ذلك اعتمد على معايير انتقامية سياسية بأمتياز. ونتيجة لذلك، أصبح للجهات المعنية بالاجتثاث سلطة هائلة على حياة أجزاء كبيرة من الكفاءات العراقية وعوائلهم علما ان القناعة حتى لدى كثير من المشاركين في السلطة بعد الاحتلال أن استمرار العمل بأجراءات اجتثاث البعث ما هي إلا أداة سياسية أخرى في أيادي مجموعة لاتريد للعراق ان يستقر او ان يتقدم وهذا اصبح واقعا ملموسا. علما ان سلطة الاجتثاث امتدت إلى التعاقد الحكومي، والموافقة على الترشيحات للانتخابات، وقيادة المنظمات غير الحكومية، والمنافذ الإعلامية والاتحادات المهنية، والتدخل في اختيار القضاة في المحكمة العراقية العليا أثناء المحاكمات، كما أدت عملية الاجتثاث إلى استياء جميع المواطنين تقريباً في العراق. فالمحكمة العراقية العليا كانت تتحرى فقط عن عدد محدود جدا من يشتبه ارتكابهم الجرائم، كما تم تضمين الأحكام الخاصة بالاجتثاث في الكثير من القوانين، لقد أصبح الاجتثاث ذريعة لكل من يراد ابعاده في قانون الانتخابات، والنظام الأساسي للمحكمة العراقية العليا، والدستور ووثائق قانونية أخرى، ان العراقيين يشعرون بالمرارة وبالآثار السيئة والجدل اللذين أثارهما القرار غير الشرعي للاجتثاث وما خلفه من عواقب وخيمة.
العدالة المفقودة في العراق المحتل
العدالة الانتقالية عبارة عن مجموعة من الممارسات والآليات والاهتمامات التي تنشأ عقب فترة من النزاع أو الصراع الأهلي أو القمع، والتي تهدف بشكل مباشر إلى مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني ومعالجتها،ولكي تصبح آليات العدالة الانتقالية فعالة في فترة ما بعد الحرب ،لا يمكن لهذه التدابير أن تتحقق إلا في بيئة آمنة، ففي أعقاب الحرب وانتشار العنف السياسي يأتي الأمن قبل أي شيء، فهو القاعدة التي تدعم كل ما عداها،فمن دون وجود درجة مناسبة من الأمن، لا يمكن نقل الشهود من المحكمة وإليها بأمان ولا يمكن للضحايا أن يتحدثوا عما حدث لهم على الملأ، ولا يمكن للمحققين أن يجمعوا الأدلة ويحافظوا عليها ،ومن المحتم أن تكون السلطات القائمة بالتنفيذ شرعية وغير متحيزة في نظر قطاع كبير من السكان،وهذا شرط ضروري في كل الحالات التي تلي الحروب ولا سيما في أعقاب الاقتتال الإثني أو الحالات التي يكون فيها الحكم لسلطة عملاء الاحتلال ،كما يجب أن تتمتع السلطات الجديدة بالإرادة السياسية والقدرة على توفيرالوقت الكافي لتدابير العدالة الانتقالية لتتمكن من تحقيق أهدافها المنشودة ،إن فعالية تدابير العدالة الانتقالية تصل إلى ذروتها عندما يكون انتقاؤها قد تم من خلال عملية تشاور حقيقية مع أولئك المتأثرين بالعنف(وهم عشرات الملايين بعد الاحتلال) ينبغي أن تنخرط كل قطاعات المجتمع الممزق من جراء ظروف مابعد الاحتلال ، من أفراد ومجتمعات محلية ومجتمع ودولة، وتشارك بقدر الإمكان في عمليات العدالة الانتقالية وإعادة البناء الاجتماعي وألا يقتصر دورها على المساعدة في أوقات مختلفة وبطرق مختلفة،ويجب أن يحصل الضحايا على اعتراف وإقرار رسميين بما عانوه من ظلم عظيم وخسارة فادحة، وأن تتمكن عائلات المفقودين من استعادة جثث موتاها ودفنها وإحياء ذكرى موتاهم. وينبغي أن يدرك أولئك الذين لم يشاركوا إطلاقاً في أعمال العنف،ولكنهم لم يتدخلوا أيضا بصورة مباشرة لوقف الانتهاكات، أن سلبيتهم قد أسهمت في الحفاظ على وجود هذه الدولة القمعية. ويجب أن يحاسب مرتكبوا الانتهاكات على جرائمهم كإقرار بألم الضحايا ومعاناتهم ولكي يعرض على الملأ أن فظائع 19 عاما تستحق الإدانة المجتمعية.والدولية
إن آليات العدالة الانتقالية المطلوب تحقيقها في العراق المحتل ستكون اكثر فعالية إذا ما طبقت إلى جانب برامج مصممة لتعزيز إعادة البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحرية التنقل وسيادة القانون وانهاء وجود العصابات والمليشيات المسلحة المنفلتة والوصول إلى معلومات دقيقة وغير متحيزة وإصلاح التعليم وتوفيرالخدمات ،وربما لانبالغ اذا شخصنا ان حساب المستقبل عبر مواجهة العراقيين لكوارث 19 عام من عمر الاحتلال تعد من أكثر القضايا تعقيدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.