آراء

داود الفرحان: عرفنا البائع… لكن لا أحد يشتري

أخيراً باضت دجاجة البيت الأبيض، فإذا بها بيضة لم ترد في عالم الحيوان. لا علاقة لها بأديب البصرة العظيم، أبي عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري، الشهير بالجاحظ، مؤلف كتاب «الحيوان». ولا صلة لها بشارلز روبرت دارون، البريطاني مؤلف كتاب «حول أصل الأنواع»، أو ما عُرف بـ«نظرية التطور»، وهو دستور علم الأحياء. ولم يرد ذكر بيضة «البيت الأبيض» حتى في كتاب «كليلة ودمنة» لمؤلفه أبو محمد عبد الله روزبه بن داذويه، الفارسي المجوسي الذي اعتنق الإسلام، وعاصر الخلافتين الأموية والعباسية. بيضة غريبة عجيبة؛ لا هي بيضاوية ولا دائرية ولا مربعة ولا مثلثة ولا مستطيلة ولا مكعبة. بيضة لا عرض لها ولا طول ولا ارتفاع. لا تمت بالقرابة إلى البعد الثالث أو الرابع أو الخامس.
لكن الرئيس الأميركي أطلق عليها تسمية «صفقة القرن»، ووصفها بعض السياسيين بـ«صفعة القرن»، وهي ليست صفقة؛ لأن البائع فيها هو المشتري، ولا صفعة؛ لأن المثل العربي يقول: «ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب».
قبل أكثر من عام، لم يتوقف المتابعون والسياسيون العرب طويلاً أمام ما كشفته صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن أن الخطة الأميركية – الإسرائيلية الجديدة فيما تسمى «صفقة القرن»، تشمل نقل عشرة في المائة من أراضي الضفة الغربية المحتلة، بما فيها مدينة الخليل، للسيادة الصهيونية، من دون تبادل أراضٍ. ولا انتبه المعنيون إلى أن العاصمة الفلسطينية ستكون مجرد أحياء متفرقة في منطقة القدس، لم تكن جزءاً من المدينة قبل عام 1967، ولا يربطها تواصل جغرافي بعضها مع بعض. أي «كومباوندات» أو «مستوطنات» فلسطينية متفرقة، عبارة عن مجمعات سكنية مغلقة بأسوار، ولها بوابات أمن وحراسة وجوازات سفر في الدخول والخروج.
ومع ذلك، فإن هذا «التصور الخيالي» للحل صار «دفاتر عتيقة» قد يُقلب أوراقها «شايلوك» القرن ليسلخ لحم «دولة فلسطين» المفترضة. وهي صيغة «دولة» لم ترد في علم «الجيوبولتيكا»، وليس لها أي نموذج سابق، لا في إمارة موناكو، ولا في الفاتيكان، ولا في الجزر الصغيرة وسط المحيطين الهادي والأطلسي، ولا في الشمال التركي في قبرص، ولا في إمارة ليختنشتاين ولا في جمهورية أفلاطون.
يريدونها دولة «كارتونية» اسمها فلسطين، على الورق فقط، لها علم مثل أي نادٍ رياضي؛ بلا جيش ولا سلاح ولا عُملة نقدية ولا سيادة ولا حتى مطار دولي. «دولة» كأنها مركبة فضائية في أفلام حرب النجوم، لها موقع ولكن من دون خريطة! وعليك أن تبحث عنها عبر الموجات الصوتية أو أشعة إكس! شيء من دول المستقبل الخرافية أو أساطير الماضي الهلامية.
لا تصدقوا أن استعراض العضلات الأميركية توقف بانتهاء ولايات جورج بوش الأب والابن، وبيل كلينتون، وباراك أوباما. نحن أمام استعراض لا يتوقف ضد العرب، تارة ضد عراق صدام حسين، وتارة ضد ليبيا القذافي، وتارة ضد سوريا بشار الأسد، وتارة ضد فلسطين محمود عباس. وهي «استعراضات قوة»، ولم تكن أبداً استعراضات مبادئ. إنه التطور الطبيعي للاستعمار بشكله الإمبريالي العتيق الباحث عن النفط ومناجم الذهب وطريق الحرير.
لم يعد ترمب يراهن على تنازلات «مؤلمة» متبادلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين لتحقيق حل الدولتين. إنه يراهن الآن على «الحل الإسرائيلي اليهودي» فقط، بحكم خبرته المعروفة في عالم المراهنات الغامض. طوى ترمب صفحة القدس التاريخية عاصمة فلسطين الأبدية، وفتح صفحة القدس الخرافية عاصمة إسرائيل الحاخامية. وفي هذه العاصمة المستولدة مثل «النعجة دوللي» لا مانع من وجود «أزقة» فلسطينية أو إدارة بلدية فلسطينية تحت إشراف إسرائيلي. وإذا تزمت المفاوض الفلسطيني فإن تل أبيب «قد» توافق على تشكيل منتخب كرة قدم فلسطيني، بشرط ألا يدخل في تصفيات كأس العالم! الأمر ليس نكتة ولا سخرية. هذا واقع الحال.
«صفقة القرن» أفشل صفقة في التاريخ على مستوى الدول. وهي بدلاً من أن تحصر الرئيس الفلسطيني في الزاوية بشروطها التعسفية ومفرداتها العنصرية، عززت مكانته في النضال الفلسطيني والعربي والدولي. من يرضى أن تتحول فلسطين من دولة تعترف بها رسمياً 140 دولة، وتتبادل معها السفارات، إلى معتقل فاشستي عنصري حراسه المدججون بالأسلحة يقفون على أبوابه الخارجية؟
هذه صفقة فشلت في لحظة إعلانها من قبل ترمب ونتنياهو، وفي غياب أي تمثيل فلسطيني أو عربي أو دولي بأي مستوى. ومن حق المجتمع الدولي وقبله دولة فلسطين أن يشطباها رفضاً بالطول والعرض، ليس تزمتاً أو عناداً أو اعتراضاً، ولكن تنفيذاً لقرارات الأمم المتحدة صاحبة الشرعية الدولية، المعترف بها والواجب احترامها.
لحسن الحظ؛ حتى الآن الموقف العربي شبه موحد ضد «صفقة القرن». ولحسن الحظ أيضاً؛ الموقف الفلسطيني الداخلي تململ قليلاً في اتجاه المصالحة. وتل أبيب تلعب دائماً على وتر الخلافات العربية – العربية، والمناكفات الفلسطينية – الفلسطينية.
الباب لم يعد موارباً، وكل النقاط على الحروف، فـ«صفقة القرن» صارت بين الرئيس الأميركي ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو فقط، والاثنان يتسلحان بهذه الصفقة لدخول الانتخابات القادمة. واشنطن وتل أبيب تريدان من «صفقة القرن» ألا تقدم أي «تنازلات» استراتيجية للفلسطينيين، مقابل حفنة تنازلات فلسطينية وطنية وقومية وإنسانية، من بينها إلغاء حق العودة للفلسطينيين، وإلغاء تسمية اللاجئين الفلسطينيين، وإلغاء أي نوع من السيادة الفلسطينية. فالصفقة تريدها تل أبيب «عقد إذعان» بين جبروت دولة الاحتلال إسرائيل، واستسلام الدولة المحتلة فلسطين، وتحويلها إلى ما يشبه إقليماً لا يملك أي مؤشر على السيادة.
فأي عبث هذا في تاريخ الأمم وخرائط الدول ومصالح الشعوب والسلام العالمي، منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم؟!
الشرق الاوسط

 

زر الذهاب إلى الأعلى