خالد القشطيني: «نعمين يا أبو كلاو» راعي الشارة
من أول مظاهر الحياة العصرية والتقدم التكنولوجي في العراق كان استعمال مضخات الماء البخارية، أو ما كانوا يسمونها «الطرمبات». أغنت هذه المضخات المزارعين والحيوانات المسكينة أيضاً عن مشقة رفع الماء من النهر إلى الحقول والمزارع. ولكن بالإضافة إلى دور هذه المضخات في توسيع الزراعة وتنمية الصناعة، فإنه كان لها أيضاً جانب فني، شاعري وموسيقي. كنا نخرج كل يوم جمعة إلى الجنادرية ونجلس على شاطئ نهر دجلة فنسمع الصوت الإيقاعي المنطلق من مداخن هذه المضخات، وهي تنفث الدخان في الهواء وتسحب الماء من النهر. ما زال صوتها الحنين يتردد في ذهني «بم… بم… بم». وبالطبع كانت هناك عدة مضخات، منها ما كان على الجانب الآخر من النهر في الدورة والكاورية. وكان لكل منها صوتها وإيقاعها الخاص. تتجاوب به فيما بينها، كأنها يغني بعضها لبعض. كنا نجلس ونستمع إلى أصواتها الساحرة.
سرعان ما شاع استعمال المضخات وانتقل إلى المناطق الزراعية من العراق. وكان منها منطقة سامراء والثرثار، حيث كان المزارعون يزرعون الخضراوات والفواكه، ولا سيما البطيخ الأحمر السامرلي المشهور. كانوا ينادون عليه «سامرلي يا رقي، سامرلي يا رقي». كانوا ينادون عليه ويسوّقونه في أسواق بغداد، في الجعيفر والميدان والأعظمية وغيرها من المناطق الشعبية في العاصمة.
وعلى ضفاف نهر دجلة قريباً من سامراء، كان المزارعون يعتمدون على النواعير البدائية. ولكن السيد محمد الساجي، وكان رجلاً من عشائر البوطالب ومن كبار المزارعين في المنطقة، سمع بدخول المضخات في البلاد. فقرر شراء واحدة منها وتركيبها في منطقة الحاوي المجاورة لضريح الشيخ ولي، أبو كلاو. ويبدو أن البنّاء الذي كان مكلفاً بتركيبها وبناء غرفة خاصة بها احتاج إلى بعض أحجار الطابوق لهذا العمل. لم يكن هناك أي طابوق في الناحية. ولكنه لاحظ السور المبنيّ حول مرقد الشيخ ولي، فقرر هدم جزء منه لاستعمال طابوقه في بناء قاعدة المضخة (الطرمبة). والمعروف أن أهالي سامراء اعتادوا على هدم سور مدينتهم واستعمال ما فيه من طابوق في بناء بيوتهم. وعليه فهناك سابقة بالنسبة للأسطى البنّاء.
أنجز عمله وركّب المضخة واجتمع القوم للتفرج على عملها. وذبح السيد الساجي خروفاً، احتفالاً بالمناسبة. ولكن الأسطى البنّاء لم يكن طبعاً من المتخصصين في تقنية المضخات والآلات الحديثة؛ فما إن شرع في تشغيل الماكينة حتى انفجرت وهدمت كل ما بُني حولها. ونثرت الطابوق المسروق من مرقد الإمام وبعثرته في كل مكان. بالطبع لم يكن لأهل سامراء أي معرفة بالماكينات، وما كان من عيوب في تركيبها. افترضوا أن الشيخ ولي أبو كلاو استاء وهو في قبره مما فعلوا بسوره، فانتقم منهم بنسف كل ما بنوا. وشاعت بين الناس حكاية هذه المكرمة والشارة من الشيخ. وكان بين الحاضرين الشاعر الشعبي خلف الحسيني فكتب قصيدة طويلة ساخرة عما جرى وقال فيها:
نعمين يا أبو كلاو راعي الشارة يا مهدم الطرمبة وحامي حجاره
نعمين يا أبو كلاو راعي الشارة خلا حدايدها ورا العبارة
فاتوا على أبو محمد وهدموا سوره وما أخذوا من خاطره ودستوره
وخلا حدايدها ببحر تيارة العون يا أبو كلاو راعي الشارة
روحوا لابن ساجي وشوفوا حاله من ضيم ربه مقلبات دلاله