علاء الشيخ : السودان ولندن والثورة واشياء اخرى
بعد وصولي الى لندن وبداية رحلة الغربة والبحث عن الذات من جديد في بلد الأحلام ببريطانيا العظمى التي نسمع ونشاهد ونقرأ عنها الكثير والمثير، وربما صنع محبوها عنها في قصص المبالغات اكثر من حقيقتها بكثير، إنها نشوى المحروم الضعيف في مدح القوي وتعظيمه وتجميل أخطائه حتى من دون وعي او بوعي.
كنت كما غيري من سكان شرق العالم الأوسط المسكين او الثالث او المتخلف عن ركب حضارتي العالم الأول والثاني، كنت اعرف عن المعرفة عن المملكة التي لا تغيب عنها الشمس لكثرة مستعمراتها وتمددها حول العالم حتى ضاقت ذرعا بمستعمراتها ولفضتها عن جلبابها المثقل بوشاح الإستقلال، ومنذ ذلك الحين ونحن ممتنون لها وأسرى جبورتها وبريقها حتى وإن عجزت وبان بياض شعرها وهي تنسلخ عن محمياتها لصالح العم سام وترضى بالقناعة وهي الكنز الذي لا يفنى.
كغيري اسمع عن قوتها الإقتصادية والعلمية والتعليمية وعن تاريخها المهيب الغارق في الأحداث والمنجزات والتراث الأدبي والعمراني حتى ان ابسط بناية او خمارة فيها اقدم من كثير من دولنا الحالية بمعناها المستقل والحرفي لمفهوم الدولة، هذا إذا كان لدينا دول من الأساس.
وكغيري ايضا اعرف عن كثرة الجاليات والغرباء من كل دول العالم فيها وخصوصا في مدينة لندن العريقة التي يسير في شوارعها ويركب باصاتها وقطاراتها سواح ومقيمون من شتى أصقاع المعمورة، حتى تكاد ترى ملامح القارات الخمس ولغات العالم المختلفة في كل مكان.
أيضا في لندن عرب كثيرون رمتهم الأسباب السياسية والدينية والمذهبية والإقتصادية والعلمية والإجتماعية والمنافي وأسباب أخرى، رمتهم جميعا تحت ظلال المملكة العتيقة.
كنت اول الأمر تواقاً لمعرفة وضع الجالية العراقية في مدينة لندن خصوصا التي كنت وانا في العراق اسمع افضل للوصول وانهم نخبة النخبة وافضل عراقيي الخارج.
فالعراقيون جالية كبيرة ومتنوعة وتضم طيفا كبيرا من معارضي نظام صدام قبل 2003 ممن قلبتهم المنافي في كل مكان وكذلك تضم نخبة من العراقيين الأثرياء وأصحاب الشهادات العليا ممن تركوا بصمات مضيئة في سجل البلاد، وطبعا لا يخلوا الأمر من طبقة إجتماعية اغلقت عليها كهف العزلة عن المجتمع فلم تتعلم اللغة او تدرس علما مفيدا او حصنت نفسها بشهادة مهنية فكانت معزولة عن الإندماج جسديا وروحيا وعقليا. تعتاش على المساعدات الحكومية ومن جيب دافع الضرائب الذي تعتبره كافرا وتأنف من مصافحته او مخالطة أبنائها له بحجة الحلال والحرام ولكنها وفي نفس الوقت تقبل ان تستلم أمواله على هيئة مساعدات بكل رحابة صدر!
من دون باقي الجاليات العربية، لفت المصريون إنتباهي في لندن. فهم متكاتفون فيما بينهم وينحاز بعضهم لبعض بشكل مثير للإعجاب والحسد في آن واحد، وكلما مرّ علي موقف أحد أبطاله مصري وأرى كيف يلتف حوله أبناء جلدته ويعاونوه ويساندوه حتى يقف على قدميه، يتجدد إعجابي بهم وتضجري وأسفي على فقدان كثير من أفراد الجالية العراقية هذا النوع من التلاحم والرحمة مع أبناء بلدهم إلا ماندر ، وهنا انا لا اعمم بقدر توصيفي للواقع من وجهة نظر خاصة جداً جداً. لست هنا اجلد ذاتي او اهل العراق فربما هي نظرة قاصرة غير فاحصة او ربما هي حقيقة نسبية ولكل منهم اسبابه او تجاربه الخاصة او مقابلة الإحسان بالنكران لست أدري ولكني فقط اعقد المقارنات.
في يوم ما كنت اتبادل أطراف الحديث مع زملاء واصدقاء مصريين في احد مقاهي لندن وتحديدا في شارع العرب المعروف أجور رود. أخبرتهم بنظرتي الخاصة عن الجاليات العربية وإعتقادي بأنهم افضل الجماعات التي تحتضن أفرادها وخصوصا القادمين الجدد وتقف معهم بالسراء والضراء وانهم خير مثال للتراحم والتعاضد .. قلت كلامي مشخصاً لا مادحا او متزلفاً. وافقوا جميعاً على قولي ولكن مع بعض التحفظات او الإستثناءات هناك او هناك. فاجئني من كنت احدثهم ان المصريين ليسوا افضل من يستحق هذا الوصف او المكانة التراحمية. فالسودانيون هم على رأس القائمة اكثر من المصريين وبشهادة المصريين أنفسهم. تعجبت وقلت لهم كيف هذا؟ قالوا لي ان علاقة السودانيين ببعضهم وتواددهم وتراحمهم فيما بينهم هو اجمل مثال إنساني يمكن الإشارة إليه من بين كل المجتمعات والجاليات المهاجرة. هدوءهم برودة أعصابهم ونبرة أصواتهم الهادئة رغم سمرة أجسادهم التي توحي بالعصبية والفوران والقوة. هم سمر الأجساد بيض القلوب ومرحون. فقلت ان هذا لاشك إنطباع عام ولابد من بعض الإستثناءات أيضا كما هو حال البشر في كل مكان.
بالأمس تذكرت هذا الموقف وانا أسير قرب مبنى وزارة الخارجية البريطانية حين رأيت مجموعة من الرجال السودانيين وهم يتحدثون عن هموم السودان واهله وآمال المستقبل والحياة الكريمة التي يتمناها الشعب المغلوب على أمره بعد إنقضاء منحة البشير. المجموعة كانت تبدو عليها ملامح النظارة والوسامة والثقافة والإبتسامة التي لم تفارق شفاههم وهم يتحدثون عن خلافهم وعن السودان الحُلم.
لم أشأ التطفل عليهم او إستراق سماع حديثهم. تركتهم في همهماتهم ولفت بي الأحداث وبدأت أقارن بين هذه المجموعة السودانية وبين معارضات عربية وإسلامية اخرى ممن كانت تعيش في المملكة المتحدة ايام هربها من بلدانها. هل كانت يا ترى تشبه هؤلاء في وتراحمهم وإبتساماتهم واناقتهم ونظرة الأمل في عيونهم؟
هل كانت المعارضة العراقية على هذا الشكل وهي تحلم بالوطن وهو حر من قبضة صدام؟ هل كانت تحلم ام لم يكن لها حُلم من الأساس بل كانت يائسة وأقصى منتهاها حديث الطوائف؟ هل كانت هكذا ام كانت لها أفكار وآمال ولكن وأدها المحتل وطمرتها تعقيدات الواقع العراقي المرير! لست أدري…
مللت التفكير والمقارنات ورجعت في المساء إلى المنزل لأنام على وقع ضجيج الأخبار المتوترة كالعادة والعواجل الإخبارية في شرقنا المبتلى بالدكتاتورية والأزمات الثنائية فأما القبول بالحاكم الظالم او البديل المتطرف فلا خيار ثالث متاح، وإن وجد الخيار الثالث فتمحوه حيتان الفساد واذناب الطواغيت.
على كل حال، سرقني النوم غيلة ونمت لأصحو صباحا على خبر الإطاحة بالبشير وسيطرة الجيش على السلطة والسودان جميعها في حالة مخاض جديد تحاكي تجارب جيرانها من الدول التي تخوض غمار التغيير.
وانا اقلب قنوات الأخبار ومواقف السودانيين وردود أفعالهم على اللحظة التاريخية، تذكرت تراحمهم فيما بينهم ومواقفهم الإنسانية في الغربة وتماسك نسيجهم الإجتماعي ومساندة بعضهم لبعض في ديار الغربة.
انا أتذكر واعقد المقارنات وهم في هذه اللحظة الحرجة من تاريخهم الحديث. اتسائل، هل سيصنعون مجددا يليق بهم ويستحضرون تجربة المودة في المهجر ام ستكون تجربة إنهيار السلطة بداية إنكشاف وجه جديد للسودان قد يعيد تشكيل ذاكرتي من جديد وبشكل يختلف عن الصورة الطيبة التي اختزلها رأسي المتعب من هموم الغربة والأخبار والمقارنات؟
صدقا لا اتمنى ان اغير أفكاري وذاكرتي. هل سيُعينني السودانيون ام سيخذلوني ويخذلون أحلامهم؟ اتمنى عليهم ان لا يفرقوا في التفاصيل الدقيقية فتضيع الأفكار الكبيرة. اتمنى عليهم ان لا يغرقوا في دوامة الخارج والداخل وحديث القبائل ومصالح الجوار. هل سينجح السودانيون؟ لست أدري فالجواب عند السودانيين انفسهم..
هلوسات واسئلة فقط…..
*مذيع في قناة الغد العربي / لندن