آراء

نزار العوصجي: عندما تختل الموازين

عندما تخرج الإمور عن دائرة السيطرة تختل الموازين ، فيختلط الحابل بالنابل وتضيع المقايس والإوزان ، فلا تعود للأشياء قيمتها ولا للمسميات مكانتها ويصبح كل شئ ممكناً ، فتبرز الأكاذيب والأدعاءات لتتصدر المشهد وتتسيد الموقف دون منازع ، عندها يضيع الحق في دهاليز الباطل ، فلا يعود هنالك مايميز الصالح عن الطالح ، بين اللص والنزيه ، الخائن والمخلص ، المؤدب والسفيه ، المثقف الواعي والجاهل المطبق ، ذلك مابدى جلياً بعد الغزو البغيض وأحتلال العراق في 2003 ..

غزو العراق جعل للمتبجحين بشعارات السيادة المفقودة والحرية المزعومة والديمقراطية المزيفة كل شئ مباح ، ذلك ماهو سائد في يومنا هذا ، من هنا نجد ان القائد لا يمتلك ادنى مقومات القيادة كما هو حال من يقود المرحلة اليوم ، والسياسي يتاجر بشعارات سياسية زائفة كما هو حال سياسيي الصدفة ، ورجل الدين بات يصدر الفتوى بثمن بخس كما هو حال المعممين ، بعد ان جعلوا من علمهم سلعة تباع وتشترى في سوق المصالح ، كذلك نجد ان الأديب لايمت للأدب بصلة كالذين برزوا الى واجهة الاعلام بعد الأحتلال ، فالكثير من البشر الذين كنا نعير لهم وزناً فقدوا مكانتهم ، وأصبح الأمل بغدً افضل بمثابة سراب نجري خلفه دون ان نصل اليه ، لذا فان تخبط الأعمى يدفع ثمنه البصير . وانجراف الرعاع يتحمله الشرفاء ، وصار لزاماً على العليم ان يكافح لكي يصلح ما افسده المفسدون ..

عندما تختل الموازين يضيع الحق ويستفحل الباطل ، عندها نجد ان المحافظين على القيم والمبادئ هم القلة القليلة في المجتمع ، يتبعون منطق العقل والحكمة في سلوكهم ، يكافحون منطلقين من مبدئيتهم في الحفاظ على وطنهم حين تتراجع مكانة وهيبة الدولة داخلياً وخارجياً فلا يعود للسيادة وجود ..
عندما تختل الموازين يفقد القانون إحترامه ، وتضعف ثقة المواطنين بالعدالة ، فمع وجود منظومة قانونية من المفترض انها متقدمة ، إلا أنها تبقى من دون تطبيق إلا في حالات محددة ، حيث يمكن إستخدامها لمعاقبة مناهضي الفساد ، أو المطالبين بحقوقهم المشروعة ، أو المجرمين و اللصوص من الطبقات المسحوقة فقط ، دون ادنى مساس بكبار اللصوص ..
عندما تختل الموازين تبرز نخبة فاسدة تسعى لتحقيق مصالحها الشخصية أولاً ، هي نتاج نسيج إجتماعي منقسم ، تستهوي إستشراء الفساد بكافة أشكاله ، ونهب المال العام ، والتبعية للخارج ، مما يؤدي الى فقدان الدولة هيبتها وسيطرتها على جزء كبير من قرارها الداخلي ، فتغطي فشلها بأنشاء مؤسسات فائضة عن الحاجة ، هدفها خلق مناصب المحسوبين ، في حين ان ليس لها دور واضح في ادارة الدولة ، الى درجة تتداخل وتتشابك معها صلاحيات المؤسسات الأساسية ، فينتج عنها تفشي الفقر والتخلف وغياب العدالة الاجتماعية ، وضعف التنمية أو غيابها ، وإنهيار البنية التعليمية المدرسية والجامعية ..

عندما تختل الموازين يبرز الاستبداد السياسي ، فلا أحد يحترم القانون ، بالأضافة الى عدم إحترام حقوق الإنسان وكرامته ، وغياب الشفافية ، وعدم الفصل بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة ، وخاصة بين المال العام والمال الخاص ، والانحياز إلى الأغنياء وإفقار الفقراء ، وتحميلهم فواتير الفساد والقرارات الخاطئة ، كما يظهر جلياً إرتباط مصالح النخب السياسية بالمؤسسات الدولية ، والخنوع والخضوع للتعليمات التي تأتيهم من الخارج ، وعدم الاعتماد على القدرات الوطنية ، لتنتشر الفوضى في كل مكان ، فيعم البؤس وتتحول الدموع المنهمرة من عيون المستضعفين الى دماء تغطي سطح ارض جرداء ..

حين تضيع المقاييس يخرج علينا من يدعي زوراً وبهتاناً انه يمثلنا ، فلا نواب السنة يمثلون الوطنيين من اهل السنة ، ولا نواب الشيعة يمثلون الأصلاء من شيعة آل البيت ، ولا نواب المسيحيين يمثلون الشرفاء الأصلاء من مسيحيي العراق .. فهؤلاء لا يمثلون اي مكون من ابناء هذا الوطن ..

عندما سُئل الكاتب الروسي أنطون تشيخوف ، كيف تكون المجتمعات الفاشلة ؟
أجاب : ” في المجتمعات الفاشلة ثمة ألف أحمق مقابل كل عقل راجح ، وألف كلمة خرقاء إزاء كل كلمة واعية ، وتظل الغالبية البلهاء على الدوام ، لها الغلبة دائماً على العاقل “.
فإذا رأيت الموضوعات التافهة تعلو في أحد المجتمعات على الكلام الواعي ، ويتصدر التافهون المشهد ، فأنت تتحدث عن مجتمع فاشل جداً ..

هذا مانحن فيه اليوم مع شديد الأسف …

جميع المقالات تعبر عن رأي كتابها ولا تمثل يورو تايمز

زر الذهاب إلى الأعلى