آراء

د. عبدالرزاق محمد الدليمي: الانتخابات بين الوحوش والطربوش

كنا نطلق مصطلح وحش أو وحوش على الحيوانات المفترسة التي تأكل بلا رحمة، وتهاجم بلا تفكير، وتنزع بضراوة للتوجه صوب الفريسة لتشبع جوعها وشهوتها في التلذذ في افتراس كل مايعترضها حتى من جنس البشر…. وهذا الأمر قد يمتد الى أن تهاجم هذه الوحوش عندما تشعر بالجوع وغلبة غرائزها حتى من تحظى برعايته وهي لاتعد ذلك خيانة أو نكران للجميل .. وهذا أمر نادر ولكن هناك حوادث وحالات عديدة شهدها العالم حول ضحايا الحيوانات المفترسة من البشر الذين لاقوا حتفهم ولم ينفعهم في ذلك ما قدموه من جهد وأموال في رعايتهم والتي لم تنجح  في تقويض غرائزها وأحكام السيطرة عليها. فالوحوش لا تفرق بين القريب والبعيد، ومن كان معها، ومن كان ضدها، فالوحوش لاتدرك الا ماتريد ومايشبع رغباتها .

بالأمس كان الإنسان هو ضحية الحيوانات المفترسة إلى جانب الحيوانات غير المفترسة، واليوم الإنسان هو الوحش الذي يهدد حياة الحيوان، والنبات، والإنسان الذي مثله، فالوحوش البشرية إن تم مقارنتها بالوحوش الحيوانية فهي أكثر خطورة، لأنها تتفوق بالعقل الذي ممكن أن يفكر ويدبر ويخطط مع مايمتلك من نوازع وخصال وحشية .أن مجرد سماعنا لمصطلح الوحوش البشرية نستغرب، ونكاد لا نصدق كيف يمكن تصنيف بعض البشر بالوحوش وبما يتناقض والتركيبة البشرية السوية التي تشتمل على عناصر ومقومات أنسانية!؟. 

الوحوش في العراق

لم تترك الاحزاب التي فرضها الاحتلال على شعبنا شيئا لم تفعله..نهب.. سرقات.. دمار.. خراب.. هدم..قتل.. تشريد.. حرائق.. فتن.. وفعل كل مالا يخطر على بال، أويستوعبه عقل ، فأصبحت تعبر في وحشيتها عن خصائص شيطانية وربما تتقدم عليها وتتفوق. وبفعل هذه التركيبة ،تم ممارسة كل شيئ بشع وقبيح، فما شهده العراق من جرائم أقترفت من قبل المجاميع الوحشية التي تدارت خلف العناوين السياسية جسد على نحو واضح وجلي صفاتها الوحشية ،فهم وحوش بأفعالهم، فالظالم وحش بظلمه، والخائن وحش بخيانته، والفاسد وحش بفساده، والمخرب وحش بتخريبه، والخبيث وحش بخبثه، والكافر وحش بكفره، والطاغي وحش بطغيانه، والعاصي وحش بمعصيته، والنصاب وحش بنصبه، وكل فعل خارج أطار القيم الأخلاقية والدينية الحقيقية والمتوازنة هو ضمن العمل والفعل الوحشي البشري.ولايخفى أن الطبيعة الأنتقامية لهذه الثلة قد عمقت ورسخت منهجها العدواني والتخريبي الوحشي.

الطربوش

معروف ان الطربوش هو غطاء للرأس  كالقبعة أحمر اللون شاع استعماله في بعض البلدان العربية بداية العصر الحديث ،وقد استخدمته بعض الأحزاب في العراق كناية ورمز أنتخابي لتوصيف برامجها الانتخابية التي يتم طرحها للناخبين والتي تعتبر احد الاسس التي بموجبها يقرر الفرد منح صوته لهذا الطرف او ذاك. والصواب في حالة المشاركة أن ينظر الناخبين لبرامج المتنافسين ويختارون الاقرب لهم ولاهدافهم بصرف النظر عن الغطاء (الطربوش) الذي تعمل تحته هذه الفئة او تلك ، الا ان واقع الحال في العراق وما يتم فرضه على الشعب يشير الى عكس هذه الحقيقة.أن غالبية العراقيين وعلى المستوى الشعبي يتفقون على مسألة غياب البرامج الانتخابية والسياسية الحقيقية في أجندات الكتل والأحزاب والشخصيات التي ستخوض اكذوبة الانتخابات في العاشر من تشرين الأول الحالي،كذلك، يتفقون على أن البرامج الشكلية والعامة التي تتقدم بها تلك احزاب الاحتلال وشخصياتها، لا تتجاوز حدود الشعارات والادعاءات مع حضور جدي وفاعل لنوايا عدم التنفيذ.فتلك البرامج تكون غالباً مكررة ومتشابهة إلى حد بعيد، وقسم منها مسروق من احزاب في دول اخرى باستثناء بعض التفاصيل الهامشية التي تقتضيها طبيعة التوجهات التي يمثلها هذا الكيان أو الشخصية المرشحة والمساحة الجغرافية التي تتحرك فيها؛ فغالبية برامج القوى السياسية التي تتحرك في المناطق المسماة كذبا  بالمحررة ، على سبيل المثال، تحرص على إدراج «ملف المغيبين» ضمن برامجها، فيما يغيب ذلك الملف بشكل كامل عن برامج القوى والشخصيات في المحافظات الاخرى.

ان جوهر البرامج الانتخابية التي طرحتها الكتل السياسية منذ الدورة البرلمانية الأولى (2006 – 2010) ظل مهيمناً على البرامج التي طرحت في الدورات اللاحقة وهو غير قابلة للتطبيق ومرشح للاستمرار في المراحل المقبلة ،لأن القوى السياسية المختلفة لم ولن تتمكن من طرح برامج محددة وقابلة للتحقيق، بالنظر لان بنود الدستور الملغوم الذي مرروه على العراقيين بالتزوير والذي لايسمح لهذه الفئة او تلك ان تنفرد بفرصة وصولها إلى السلطة لوحدها، ولعدم قدرة أي كتلة أو ائتلاف سياسي بالحصول على رئاسة الوزراء أوالبرلمان، ولأن تلك القوى والائتلافات عبارة عن تجمعات انتخابية مؤقتة سرعان ما ينفرط عقدها بمجرد الوصول إلى قبة البرلمان.ويعتقد كثيرون أن برامج مايسمى بالقوى السياسية ستبقى أسيرة للصفة «الهلامية» وغير القابلة للتحقق، وتكرس ذلك من جديد في الدورة الانتخابية الجديدة.
ومع غياب البرامج الانتخابية الحقيقية القادرة على إقناع الناخبين، فإن معظم المرشحين والقوى السياسية يسعون عبر وسائل أخرى لاستدراجهم وضمان أصواتهم يوم الاقتراع، ومن بين أقوى تلك الوسائل الشائعة تقديم الطعام وإقامة الولائم  والذي أصبح سياق شائع بين أوساط المرشحين، هذا إلى جانب تقديم المبالغ النقدية البسيطة لا تتجاوز حدود 100 إلى 200 دولار تُمنَح للناخبين لضمان أصواتهم ،ويلجأ البعض إلى توزيع سلال غذائية متواضعة في المناطق والأحياء الشعبية الفقيرة ،فضلا عن قيام المرشحين بإكساء بعض الطرق بمادتي الحصى والرمل في الأحياء والمناطق المتهالكة التي تفتقر للخدمات البلدية. وهناك أيضاً، قيام بعض المرشحين بأستخدام موارد الدولة والاجهزة الرسمية التي تحت سيطرتهم بتوزيع أسلاك التوصيل ونصب المحولات الكهربائية وتقديمها للأحياء ولمناطق التي تعاني من غيابها وهناك من يعمد إلى توزيع بطاقات شحن الهواتف الجوالة للناخبين لضمان أصواتهم، وبعض الكتل والجماعات السياسية تعمد إلى منح المواطنين 25 ألف دينار (نحو 10 دولارات) لضمان حضورهم إلى مهرجاناتهم الانتخابية وربما ممارسات أخرى كثيرة في ذات الأطر والسياقات.ورغم محاولات الأحزاب والقوى السياسية استغفال العراقيين بطرق مختلفة لتمريروترويج برامجها الانتخابية، فإن أعداداً غير قليلة من المواطنين يقومون وبطريقة عكسية باستثمار ما يقدم لهم من عطايا وخدمات من دون أن يلتزموا بالتصويت لتك القوى والشخصيات، لأنهم يدركون أن وعودهم كاذبة وشعاراتهم مضللة وأرادتهم مرتهنة بسياسات ومصالح دول ودوائر أجنبية.

وعلى الرغم من أن المرجعية الدينية الشيعية كانت ولاتزال احد اهم الداعمين لتمرير مسرحيات الانتخابات السابقة وافتت هذه المرة بأن المجرب يمكن ان يجرب مرة اخرى، ألا أن  المقاطعة الشعبية الواعية والجادة تنامت على نحو يجعل المسافات واضحة بين من يرفض كل مايسمى بالطبقة السياسية ومن يقف معها ويدعمها وبين أولئك الخاضعين والمنتفعين والمضللين من الذين يشكلون غطاء لفعل التخريب والفساد في العراق.

ان مسرحية الانتخابات الحالية تؤشر الى حجم كبيرومتزايد لعزوف الناخبين عن الأدلاء باصواتهم مما يسهم في تقويض شرعيتها القانونية والشعبية ، وقدرتهم على التصريح بالمقاطعة دون الخوف من التخوين والتهديد مما يسهم في تقويض شرعيتها القانونية والشعبية ،كما تؤشر بوضوح لغياب الدور الحقيقي المفترض للمؤسسة الحكومية  التي تمثل رسميا دولة العراق من حيث السماح لتحول الانتخابات لمسرح للمنافسة الإقليمية على العراق من التفكير بفرض القوانين والمعايير التي تحفظ هيبة الدولة وتصون سيادتها وأستقلالها، حتى صار الشارع يقيس مدى قوة الدول المجاورة بكمية الإعلانات والدعاية التي يقوم بها مرشحيها. كما أن ظاهرة أخرى رشحت عن هذه المسرحية الهزلية متمثلة في استخفاف الكيانات المشاركة بألمسرحية الانتخابية بالإنسان العراقي من خلال طرق التعاطي مع  الأعلانات والدعايات الأنتخابية فهي بالأضافة الى ماتم ذكره آنفا من التلويح بالعطايا فهي قد أشتملت أيضا على عدم حرص الكثير من المرشحين والمرشحات على تقديم أنفسهم بصيغة لائقة من ناحية التصوير او الأدلاء بتصريحات وأراء مرئية ومسموعة.

 ومما يدعم حقيقة أنحراف الأنتخابات عن أي مسار سوي وصحيح هو ان عدد غير قليل من المرشحين هم أعضاء في  الميليشيات أو المدعومين منها وهم الذين تغولوا في الدولة والمجتمع على مدى سنوات حكمهم حتى صار المرشحين الجدد ذوي السجلات النظيفة عاجزين تماما على مواجهتهم والوقوف بوجههم،كما أن قانون الانتخاب في الدستور لا يضمن العدالة للشعب العراقي وذلك من خلال سكوته عن تحديد حد أدنى للمشاركة الانتخابية بالإضافة لقانون “سانت ليغو” الذي يمنح الأصوات المبعثرة للكتل المتغولة ولكونه قاصرا تماما في جوانب عديدة على الأحاطة أو التعاطي مع المتغيرات بصيغة عادلة ومنطقية تستجيب للمصلحة العامة.لذا فأن سياق الانتخابات برمته فاسد تماما وويؤكد الحاجة الضرورية والحاكمة لتغيير الدستور المسخ وهذا يفسر عدم سعي النواب الذين يدخلون القبة البرلمانية لتغيير هذا الدستور أو حتى تعديله.وهو أي الدستور من أسس  لطغيان صوت القبيلة والطائفة والمناطقية، ومن ثم شجع  على تفاقم الصراع المجتمعي في العراق وبصيغة تعجز معه الدولة العراقية المهترئة في القيام بأي دور فاعل.

 الجانب الآخر المهم في موضوع الأنتخابات يتعلق بأن مهمة من سيشارك في الأنتخابات هو إعادة تدوير الوجوه من حيث أن القوائم الأنتخابية المعلنة أشتملت على أسماء أضحى تواجدها تحت قبة البرلمان بصفة دائمة وبصيغة وظيفة استثمارية وليست دور أو رسالة أو مشروع وطني.الانتخابات وأن غيرت وجوه بعض النواب لن تستطيع أن تغير التركيبة البنيوية للحكومة من موظفين مدنيين وعسكريين من الذين يتحكمون بالمفاصل الرئيسية والذين أنتجتهم المحاصصات والمافيات وهم من يشكلون شبكة الفساد المتماسكة والقوية والتي تتخطى قدراتها وتأثيرها هرم مايسمى بالسلطة في العراق، وهذه الشبكة لن ينفرط عقدها طالما يتم أعادة انتخاب رؤوسها والقابلين للانخراط فيها. ولذلك يجب أن يسعى الشعب العراقي بمختلف قطاعاته الى توسيع دائرة رفض الأنتخابات والخضوع لأرادة الشعب الحقيقية والوطنية والواعية لتشكيل حكومة وطنية مؤقتة تنزه عن كل من دخل مايسمى بالعملية السياسية وتعمل على تقويم الوضع السياسي في العراق والتأسيس لمنهج وطني حقيقي يثمر عن أنتخابات سليمة تحصن ضد كل الظواهر التي رافقت ماسبقها من مهازل سياسية .

أن ألدعوة لمقاطعة هذه الانتخابات هي بمثابة اضعف الايمان وعلى العراقيين العمل بجدية لتغيير الوضع البائس من خلال  إعادة اعمار الإنسان واعادة منظومة القيم والاخلاق وترميم الضمائر وتعلية القيم المعنوية على حساب القيم المادية والتخلص من الأمراض المجتمعية التي اكتسحت مجتمعنا منذ 19 عاما ،وأن نأخذ جانب الحق لا جانب المنفعة ونتصرف بما يمليه علينا الضمير لا التيار وان نرفض أنصاف الحلول ونرفض المداهنة والقبول بالأمر الواقع  وأن نهتم بتحويل جزء كبير معطل من شعبنا من الأغلبية الصامتة الى المشاركة الحقيقة في التصدي للعملية السياسية الفاسدة،والا فالوحوش وطربوشهم سيبقون يتحكمون بنا وبمستقبل اجيالنا القادمة!!.

ـ كاتب واكاديمي عراقي مقيم في الاردن

زر الذهاب إلى الأعلى