ستراسبورغ… مدينة السياسة والجمال
منذ قرون سحيقة، عُرفت ستراسبورغ بفنون التجارة والصناعة والطباعة والكتب والنشر، وإليها لجأ الألماني يوهان غوتنبرغ مخترع الطباعة الحديثة بالأحرف المتحركة الذي عمل كذلك في صناعة الأحجار الكريمة.
يسمونها «مدينة الطرق» أثراها التاريخ واختلطت فيها الثقافات وجمّلتها الطبيعة، تلك هي مدينة ستراسبورغ الفرنسية عاصمة إقليم الألزاس، وثالث مدن الاتحاد الأوروبي.
تقع ستراسبورغ في أقصى شمال شرقي فرنسا مع الحدود الألمانية. هذا البعد الجغرافي كان ولا يزال عاملاً أساسياً في حياة المدينة وجنسية حكامها وسكانها وعمرانها وموروثاتها، وبالطبع لغاتها.
سياحياً، توفر ستراسبورغ لزوارها كل ما يحتاجون إليه مهما اختلفت أذواقهم. فهي جزيرة تحدّها جبال، وتحيطها قنوات، وتختلط فيها الثقافات. طقسها متنوّع ويختلف اختلافا بيّناً، بين الحرارة صيفاً والبرودة شتاءً. وعلى الرغم من صغر مساحتها، فإنها تضجّ بالمزارات القديمة، حيث صُنع التاريخ قبل قرون، وأخرى أوروبية حديثة حيث يكتب التاريخ سطوره حالياً. الوصول إليها والتنقل فيها سهل، حيث تربطها مسارات وطرق خاصة بالمشاة والدراجات، إضافة إلى توفرها على محطة رئيسية فخمة ساهمت في تصميمها المعمارية البريطانية العراقية الأصل، زها حديد. كثر فيها خطوط الترام والعبّارات المائية المكشوفة أو المسقوفة، وهي تدور حول المدينة بجولات سياحية ممتعة ومريحة، إضافة إلى الـ«توك توك».
ورغم أنها تزخر بالمتنزهات وبالهدوء والرومانسية، فإنها لا تخلو من النوادي والملاهي لعشاق الصخب والسهر والحفلات، هذا عدا الكثير من المتاحف والقصور والقلاع وصالات الفنون والمعارض، كما أنها مدينة تسوّق ومطاعم من الدرجة الأولى. بهذا الطبق الدسم والمتنوع، تحتفي المدينة بسياحها من مختلف دول العالم.
– قبضة السياسة وأثر الحروب
عندما يتحدث المؤرخون عن تاريخ ستراسبورغ لا ينقطع الحديث عن حروب مكّنت المنتصر من فرض سيطرته على المدينة ولغتها وثقافتها لحقب كانت تطول أو تقصر إلى أن تنشب حرب وتلحق هزيمة تجيء بمنتصر وحاكم وعهد جديد. تجمع المصادر على قدم ستراسبورغ التي يقولون إنها قد ظهرت كقرية سلتية غزتها قوات القيصر الروماني يوليوس قيصر وأطلقوا عليها اسم Argentoratum، من ثمّ أطلق عليها الفرانكس (قبائل جرمانية غربية نزحت من شمال أوروبا) اسمها الحالي. كما تشير بعض المصادر إلى أن أسقف ستراسبورغ ظل دائماً صاحب نفوذ وسيطرة حتى عند اختلافه مع الوطنيين وتحالفه مع الحكام.
تتميّز المدينة بصورة خاصة جداً؛ كونها بقيت حتى مطلع تاريخها الحديث، تتقلب ما بين حكم ألماني يعقبه حكم فرنسي في صراعات دامية.
ظلت المدينة تحت سيطرة روما إبّان الإمبراطورية الرومانية وفيينا إبان إمبراطورية الهابسبورغ، ثم باريس خلال حكم الملك لويس الرابع عشر والثورة الفرنسية وما أعقبها من حروب فرنسية وسيطرة نابليون بونابرت، ثم أمست ألمانية بعد الحرب الفرنسية البروسية (الألمانية) 1870 – 1871 التي انتهت بنصر ألماني. كجزء من التسوية ضمت ألمانيا إقليم الألزاس ومدينته الكبرى ستراسبورغ.
ما بين سيطرة هذا أو ذاك، كانت أحوال ستراسبورغ ومسيرتها تتغير حسب ما يوليه لها الحاكم من اهتمام وكيفية تخطيطه للاستفادة من موقعها معبراً حدودياً ومائياً يقع على نهر إيل، رافد نهر الراين بالغ الأهمية، ولا سيما من الناحية التجارية، ناهيك عن جبالها التي كانت خطوطاً دفاعية. بلا شك، فقد أثّرت تلك التغييرات السياسية في نفسية شعوب المنطقة وحركة نزوحهم، كما أكسبتهم خبرات مختلفة؛ فأمسوا مهرة في كثير من أمور المعيشة، وبخاصة الصناعة والطباعة والزراعة والرّي، كما برعوا أيضاً في الصيد.
> مدينة التصالح
في عام 1949، وقّعت الدول الأوروبية في ستراسبورغ النظام الأساسي لمجلس أوروبا كبلورة لفكرة الوحدة الأوروبية والمصالحة.
وفي هذا السياق، اختيرت ستراسبورغ مقراً للمجلس الأوروبي ولمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية والبرلمان الأوروبي؛ مما زاد من أهميتها وثرائها.
وفي عام 1988 أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) قلب المدينة منطقة ستراسبورغ الكبرى بأكملها إلى قائمتها للتراث العالمي.
– أهم معالمها السياحية
> كاتدرائية سيدة ستراسبورغ
لم تسلم ستراسبورغ من النزاعات الدينية بين البروتستانت والكاثوليك، وإن اعتنقت كغيرها من المدن الفرنسية، الكاثوليكية مع فصل قاطع بين الدين والدولة؛ ما يجعل كاتدرائيتها العريقة من أهم معالم المدينة سياحياً.
بدأ تشييد الكاتدرائية في عام 1015 من الحجر الرملي الأحمر المأخوذ من جبال الفوج، (هي مجموعة من الجبال المنخفضة في شرق فرنسا، بالقرب من الحدود مع ألمانيا). لعبت أيضاً دوراً أساسياً في مصير المدينة؛ إذ كانت بمثابة خطوط دفاعية بين ألمانيا وفرنسا ومصدر نزاع لثرائها بالمعادن وحقول الماشية والقوة المائية للمحركات الكهربية ومصانع الخشب والفحم والزجاج.
تتميز الكاتدرائية التي بُنيت على مدى أربعة قرون، بالنمط القوطي الذي يحرص حرصاً بالغاً على التفاصيل والتماثيل وكثافة النحت. طولها 455 قدماً؛ مما جعلها أطول مبنى أوروبي لما بعد منتصف القرن الـ19.
مجّد الأديب الفرنسي فيكتور هوغو إبداعها المعماري ووصفها بأنها «أعجوبة عملاقة» في حين قال عنها الأديب الألماني يوهان وولفغانغ فون غوته، إنها «شاهقة وأنيقة مثل شجرة».
للكاتدرائية برج واحد فقط، للوصول إليها على السائح أن يصعد 350 عتبة في سلم حلزوني ضيق. رغم التعب سيتمكن من الاستمتاع بغروب الشمس ومنظر بانورامي للمدينة من أعلى سطحها المنبسط.
تغلق الكاتدرائية أبوابها قبل منتصف النهار ليدخلها لأقل من ساعة من يحملون بطاقات لمشاهدة ساعتها الفلكية الشهيرة، التي أضحت أُتوماتيكية تتحرك مصدرة أصواتاً في مشهد ديني درامي.
الآن تعتبر الكاتدرائية قلب المدينة ومركزها وتشهد جادتها الكثير من المناسبات والفعاليات والأسواق المفتوحة
> فرنسا الصغيرة
خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت منطقة فرنسا الصغيرة عبارة عن أبنية عسكرية ذات طابع دفاعي وثكنات للجنود، بما في ذلك مستشفى لعلاج مرض السيفلس أو الزهري الذي انتشر بكثرة فترة الحروب المتتالية. تضمّ المنطقة أيضاً، أحياء شعبية سكنها عمّال المصانع والدباغون والمزارعون والصيادون.
احتفظت المدينة، رغم تنوع الصناعات وحاجاتها لمصانع أوسع، بمبانيها الخشبية القديمة التي يغلب عليها المعمار الألماني والأبنية منخفضة العلو من طابقين أو ثلاثة المطلية بألوان مختلفة تزينها قطع وألواح من الخشب المتقاطعة والمنفردة.
أكثر ما يميز هذا الجزء من المدينة أزقتها، وجسورها التي تربط بينها وتجعلها منطقة سياحية من الدرجة الأولى خاصة لعشّاق المشي.
وكما قام صينيون بنسخ وتقليد حرفي لمدينة هالشتات النمساوية ومساكنها الصغيرة المتراصة فوق تلة الجبل على ضفة البحيرة توجد في Hoben – ro Cheongpyeong – Myeon في كوريا الجنوبية منطقة مقتبسة عن فرنسا الصغيرة بكل معالمها وأجوائها، وإن أضافوا إليها بعض النماذج من برج إيفل.
> قصر روهان
قصر على النمط الباروكي شُيد للأسقف أرماند غاستون دي روهان، الذي، وفقاً لرواية مؤرخين، كان ابناً غير شرعي للإمبراطور لويس الرابع عشر. وقد عُرفت العائلة بكونها عائلة أرستقراطية ثرية قدمت للكنيسة عدداً من الكرادلة الذين سكنوا القصر. تجدر الإشارة إلى أنه القصر نفسه الذي استضاف لويس الرابع عشر، ونابليون بونابرت، وماري أنطوانيت، ولا يزال يستقبل كبار زوار ستراسبورغ من الملوك والحكام.
يتكون من طوابق ثلاثة تحولت أجزاء منها إلى متاحف تعرض أسلوب الحياة بالمنطقة وفنونها، منها متحف عن تاريخ إقليم الألزاس ونماذج لكيفية المعيشة والسكن وأساليب العمل اليومي، إلى جانب متحف لكبار الفنانين الفرنسيين والفنون الجميلة، ومتحف آثار يضمّ أثاثات ومجوهرات وفنون زخرفية.
وعلى الرغم من أن التجوال حول ستراسبورغ وفي طرقاتها يُعتبر متعة لا تضاهى، فإن المتاحف والمعارض وصالات الفنون تستحق الزيارة، ولا سيما متحف الفنون الحديثة والمعاصرة. يضم أكثر من ألف لوحة ورسمة، ومنحوتة وتمثال وغرافيك، وتصميم وعرض لوسائط متعددة، وصور فوتوغرافية.
تختلف معروضاته من حيث فترتها الزمنية؛ إذ يعود بعضها إلى الفترة الانطباعية، بينما هناك لوحات للفنان مونييه إلى جانب أعمال حديثة عن نيويورك وزخمها. المشهد يؤكد روعة طرق العرض وكيفية توزيع اللوحات على الجدران والإضاءة والتماثيل. وتوجد للمتحف محطة ترام باسمه كما يضم مكتبة ومتجراً ومقهى. ويستحق المتحف الزيارة؛ لما يحتويه من فنون وديكورات رائعة.
> الحي الأوروبي
تشارك ستراسبورغ كل من بروكسل ولكسمبورغ استضافة أهم المقار التشريعية والسياسية التابعة للاتحاد الأوروبي؛ مما زاد من ألق المدينة وأهميتها، وأدخل عليها تحديثات عصرية والكثير من الحيوية.
بدورها، تضيف المباني الأوروبية ذات المعمار الحديث والجدران الزجاجية، الكثير على المدينة. ورغم أن الحي الأوروبي يبعد عن وسط المدينة، فإن الوصول إليه سهل.
ولمن لا يرغب في زيارة ميدانية والاكتفاء بمجرد رؤية المقار الأوروبية من الخارج، يمكنه الاكتفاء بالجولات السياحية الدائرية على متن العبارات التي تلف في النهر حول المدينة ويقدم مرشدوها بعض المعلومات.
> لمسجد الكبير
في عام 2012، افتتح في ستراسبورغ أكبر مسجد في فرنسا بقبة ترتفع 20 متراً. يعمل المسجد منارةً إسلاميةً حديثةً وجميلةً تنظم دروساً دينية ومحاضرات، كما يوفر خدمات اجتماعية ورمضانية. كونها مدينة سياحية أولاً، وثانياً كونها تحضن فعاليات كثيرة واجتماعات أوروبية، فإن فنادقها كثيراً ما تكون فنادق محجوزة؛ مماّ يتطلب تأكيد حجز فندقي مبكراً، كما يستحسن معرفة إن كان إلغاء الحجز مكلفاً. وفي المدينة الكثير من الفنادق التي تتفنن في جذب النزلاء باستخدامها مباني تاريخية وأخرى لاستحداثها طرق ديكور وأثاثاً حديثاً، والاستعانة بفنانين تطلق لهم الخيار في تزيين الغرف بإبداعاتهم ولوحاتهم.
> التسوق والمطاعم
لصغر حجم المدينة وسهولة الانتقال فيها وتنوع منتجاتها يحلو التسوق فيها، سواء للتبضع أو لمجرد النزهة والاطّلاع على آخر الصيحات، ولا سيما أن محالها الصغيرة أنيقة وفاخرة. ويوجد فيها فرع من المتجر الفرنسي المعروف غاليري لا فاييت.
أما فيما يتعلق بالمطاعم، فحدّث من دون حرج. منها الشهير والشعبي والتقليدي، وتلك التي تنتشر في مختلف الميادين وحول الكاتدرائية.
– جغرافياً
تبعد ستراسبورغ 500 كيلومتر من العاصمة باريس، وتلك مسافة يقطعها القطار الفرنسي السريع «تي جي في» خلال ساعتين وعشرين دقيقة. ولا تتجاوز المسافة بينها ومدينة شتوتغارت سوى 170 كيلومتراً و230 كيلومتراً من لوكسمبورغ و220 من فرانكفورت، وكذلك من زيوريخ.
ذلك القرب والمهارة في ربطها بطرق سريعة بتلك المدن وغيرها، إضافة إلى خدمات السكك الحديدية الأوروبية المميزة والجوية، جعل الوصول إليها سهلاً وجذّاباً.