آراء

داود الفرحان: لماذا كل هذا الرعب الأميركي من الصين؟

أمر غريب أن تشعر الولايات المتحدة الأميركية بالقلق من الانفتاح الاقتصادي السعودي بشكل خاص، ثم الخليجي فالعربي بشكل عام. ولم يتردد الرئيس الأميركي جو بايدن في أن يعلن خلال زيارته للمملكة العربية السعودية في الصيف الماضي، أن بلاده لا تنوي الانسحاب من الشرق الأوسط، وترك فراغ «تحتله» الصين أو روسيا أو إيران. ويعرف بايدن أن الصين في عهد رئيسها الحالي شي جينبينغ حققت مكانة خاصة بين الدول المنافسة للولايات المتحدة في التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري، بحكم أن بكين هي ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الاقتصاد الأميركي.
وما يلفت النظر أن المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيري، صرح لوسائل إعلام أميركية بأن واشنطن تدرك أن الصين تحاول مدّ «نفوذها» إلى الشرق الأوسط. وذكرت الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أن واشنطن ازداد قلقها واهتمامها بعد التقارب الصيني سياسياً واقتصادياً مع الدول العربية، خصوصاً مع السعودية، بعد زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مرحلة تاريخية جديدة. في الواقع، لم تفعل المملكة أكثر مما تفعله أي دولة يهمها تطوير التعاون المشترك وزيادة التبادل التجاري المدني.
لقد انتبه الإعلام الدولي إلى أن الحفاوة الشخصية والترحيب والتفاعل من قبل ولي العهد السعودي في الرياض مع الرئيس الصيني، كل ذلك أكبر مما جرى للرئيس الأميركي، لأكثر من سبب؛ أولها الانحياز الأميركي المطلق إلى إسرائيل في مجازرها الدموية وقسوة تعاملها مع الشعب الفلسطيني الأعزل والمقدسات الإسلامية في القدس، وثانيها أن واشنطن لا تهمها غير مصالحها الضيقة فقط، ولا تنال منها الدول غير الوعود والعهود التي لا تتحقق إلا لإسرائيل.

على أي حال، فإن بوصلة الشرق الأوسط تتحول إلى الصين، كما قالت الإذاعة الدولية الألمانية الموجهة إلى العالم الخارجي. وشهد العام الحالي منذ شهر يناير (كانون الثاني)، ازدياداً في توجه وزراء خارجية بلدان الشرق الأوسط إلى بكين. ووزراء الخارجية مهمتهم سياسية، وهذا ما يلفت النظر أكثر من وزراء التجارة أو الزراعة أو الصناعة ومهماتهم تعاونية أو تنموية أو تجارية أو صناعية أو سياحية أو زراعية. فهذه المهمات اعتيادية، ولا تلفت الأنظار كثيراً مثل وزارتي الخارجية أو الدفاع… فهنا تُقرع الأجراس! وقبلهم كلهم زار الصين في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، المستشار الألماني أولاف شولتز، وقال: «لا يمكن الانفصال عن الصين».
وآخر من شد الرحال إلى بكين أيضاً الرئيس البرازيلي لويز لولا دا سلفا للاجتماع مع نظيره الصيني. وتساءل الرئيس البرازيلي: لماذا يتعين على جميع البلدان التعامل في مبادلاتها بالدولار؟ ومن قرر أن الدولار هو العملة المرجعية للعالم؟
لكن القلق الأميركي من الصين الشعبية وزيادة التوتر؛ بدءاً من مناورات وتدريبات عسكرية صينية في محيط تايوان التي كانت تشتهر في سنوات سابقة باسم «جزيرة فرموزا»، إلى تحليق طائرات حربية أميركية فوق القطع البحرية العسكرية الصينية. وهو أمر ترافق مع تحليق منطاد «كونفوشيوس» الصيني في أجواء الولايات المتحدة من دون ترخيص قبل أن تسقطه، قبل أكثر من شهر، طائرة مقاتلة أميركية بأمر رئاسي من بايدن.
المسافة بين بكين ونيويورك أكثر من 11 ألف كم. وتقطع الطائرات الحديثة المسافة في أكثر من 13 ساعة. ومع ذلك، فإن الرئيس الأميركي بايدن يستمتع بالحديث أياماً وليالي عن قلقه من الصين، ولا يطيق سماع مشاكل بلاده مع جارته المكسيك دقيقة واحدة!

ودخل على الخط، كالعادة، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليبحث في بكين عن خيوط حلّ سياسي لأزمة أوكرانيا. واصطحب معه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين. وقيل إن الزيارة تهدف لدفع الرئيس الصيني شي جينبينغ للانضمام إليهما لتسريع وقف الحرب الأوكرانية وبناء سلام دائم في المنطقة. ويعتمد الوفد الأوروبي على الرئيس الصيني لعلاقاته الوطيدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وشدد ماكرون على الدور الذي يمكن للرئيس الصيني لعبه في تقريب وجهات النظر بين روسيا وأوكرانيا، باعتبار أن الصين متحالفة سياسياً واقتصادياً مع موسكو ويتبادل الرئيسان أفكاراً غير متقاطعة إلا في حدود ناقشاها خلال زيارة الرئيس الصيني لروسيا قبل أسابيع. وفي كل الأحوال، فإن الوساطة الفرنسية ليست مهمة بقدر الوساطة الصينية التي أبدت براعة وحكمة في التقارب السعودي – الإيراني الذي وصفته صحيفة «نيويورك تايمز» بأنه قَلَبَ سياسة الشرق الأوسط رأساً على عقب، وفسرت الصحيفة الأميركية ذلك بأنه يؤكد طموح الرئيس الصيني في تقديم بديل للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، ما لمّع صورته كرجل دولة عالمي يعيد إلى الأذهان زعماء العالم الكبار أمثال الفرنسي شارل ديغول، واليوغوسلافي جوزيف بروز تيتو، والهندي جواهر لال نهرو، والإندونيسي أحمد سوكارنو، ورئيس قبرص الأسقف ماكاريوس الذي استرد الرئاسة من العسكر، والجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، والأمين العام الأسبق للأمم المتحدة داغ همرشولد، وأول امرأة تولت رئاسة حكومة في العالم سيريما باندرانايكا رئيسة وزراء سيلان أو سريلانكا قبل 63 عاماً. لقد رحل هؤلاء العظام الذين كانوا يتولون مهمات التوسط في المشاكل الدولية في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي.
أما اليوم، فاختارت صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية عن وساطة ماكرون عنوان: «عندما يخرج ماكرون عن التاريخ». وصدرت صحيفة «ويست فرنس» بعنوان: «عودة ماكرون الصعبة من الصين»، وقالت: «إن رحلة ماكرون إلى الصين كانت معقدة ومليئة بالمزالق»، إلا أن الأطرف ما سجلته الصحيفة عن تصريح لماكرون على متن الطائرة التي أعادته إلى باريس خالي الوفاض شرح فيه للصحافيين المرافقين ما وصفه بأنه «استراتيجية الحكم الذاتي لأوروبا»!

ومع هذه الانتقادات القاسية، استغل ماكرون الفرصة، فأخذ معه فريق عمل اقتصادياً فرنسياً يمثل أكثر من 50 رئيس شركة فرنسية كبرى من بينها «آير باص» و«كهرباء فرنسا» و«فيوليا» للخدمات العامة. وأبدى الرئيسان «تفاهماً» كهربائياً، فنظم الرئيس الصيني دعوة عشاء خاصة تعبيراً عن رغبته في إقامة عمل مشترك مع فرنسا.
لقد نجحت بكين في توقيع بيان سعودي – إيراني لإحلال السلام والأمن في منطقة الخليج العربي. لكن من قال إن خليج تايوان يشبه الخليج العربي؟ ومن قال إن الرئيس الصيني شي جينبينغ يمكن أن يوقف حرب أوكرانيا إذا لم توافق روسيا؟

نقلا عن الشرق الأوسط

زر الذهاب إلى الأعلى