ثقافة

الحياة الباريسية بعيون فنان فلبيني

قليلون هم الرسامون من خارج أوروبا الذين استطاعوا أن يخترقوا الحياة الإبداعية الغربية، ويقدموا أنفسهم كفنانين جديرين بالاحترام، وبطبيعة الحال فهم يحملون أفكاراً مختلفة حول الواقع الغربي عكسوها في أعمالهم الفنية من رسومات ولوحات وتكوينات جمالية وجدت صدى طيباً.

الفنان الفلبيني خوان لونا «1857 ـ 1899»، هو من أشهر الرسامين الذين تركوا انطباعاً مميزاً في الغرب، ولد في بادو التابعة لمحافظة ايلوكوس نورتي في الفلبين، وأرسل إلى أوروبا ليتم دراسته حول الفن، حيث زار هناك إسبانيا، إيطاليا ثم فرنسا، وفي النهاية استقر في باريس، وهو أحد الفنانين الفلبينيين المعترف بهم دولياً، حيث كان له صولات وجولات في أوروبا، وذلك يرجع إلى دون لورينزو غيريرو، أول معلم فني للونا، والذي اكتشف فيه الموهبة والنبوغ، فكان أن أقنع والديه اللذين كانا من ميسوري الحال، بإرسال ابنهما إلى إسبانيا لتلقي تعليم متقدم هناك، فكان أن غادر إلى برشلونة مع شقيقه الأكبر مانويل الذي كان عازف كمان، وأثناء وجوده هناك، وسع لونا معرفته بالفن وتعرف إلى الأعمال الخالدة لأساتذة عصر النهضة، ليسافر بعدها إلى روما لتلقي مزيداً من الدروس، رفقة معلمه أليخو فيرا، وهو رسام معاصر مشهور في إسبانيا.

تعمقت مواهب لونا الفنية في عام 1878 مع افتتاح أول معرض فني في مدريد، والذي كان يسمى «المعرض الوطني للفنون الجميلة»، فمنذ ذلك الحين، انخرط لونا في الرسم وأنتج مجموعة من اللوحات التي عرضها في معرض خاص عام 1881، وقدم بعدها العديد من الروائع الفنية منها لوحات فازت بجوائز رفيعة، مثل لوحة «معركة ليبانتو»، التي رسمها بتكليف من مجلس الشيوخ الإسباني بعد أن طور صداقة مع ملك إسبانيا، وعدد من الأعمال الأخرى.

لوحة «الحياة الباريسية»، أو «داخل المقهى»، تعتبر واحدة من أهم وأجمل وأفضل أعمال لونا الفنية، رسمها بألوان الزيت على القماش عام 1892، وهي تنتمي إلى أسلوبه الانطباعي واندفاعه نحو تعميق العمل الفني عبر الرؤى الفكرية وإثارة الأسئلة، حيث تعد اللوحة تأملاً في حياة الباريسيين، ويبدو من مظهر اللوحة العام أنها تعكس أجواء غاية الحميمية مريحة للعين، وهو الأمر الذي يشير إلى أن الفنان رسم تلك اللوحة وهو في أفضل أوقاته، إذ إنه تعرض بعد ذلك بفترة قصيرة لمحنة كبيرة.

قصة
هناك موقف في حياة الفنان شكلت منعطفاً كبيراً في تجربته الفنية، فعندما تزوج لونا من زوجته باز باردو تافيرا، أنجبت له ابنه اندريس، وعلى الرغم من الحب الكبير الذي يكنه لتلك المرأة إلا أنه وبعد موجة غضب عارمة فجرتها الظنون والشكوك، قام بإطلاق الرصاص على زوجته وزوجة أبيها، ما أدى إلى مقتلهما، وجرح شقيق لونا ويدعى فيلكس، ليتم اعتقال الفنان ويفرج عنه بعدها على أساس الجنون المؤقت؛، وكان لتلك الواقعة انعكاساتها على حياة لونا وفنه.

رسم لونا هذه اللوحة في باريس، متأثراً بأسلوب الحياة فيها، إذ عاش فيها 8 أعوام، حيث تعرف تلك المرحلة في حياة لونا المهنية باسم فترة ما بعد الأكاديمية أو بالفترة الباريسية، حيث انتقل أسلوبه الفني فيها من «الألوان الداكنة الأكاديمية» وأصبحت «أفتح بشكل متزايد في اللون والطابع»، وفي تلك الفترة صار لونا مشهوراً كرسام ومعروفاً للبلاط الملكي الفرنسي والإسباني، وهي ذات الحقبة التي شارك فيها في حركة الدعوة الفلبينية مع خوسيه ريزال البطل الوطني للفلبين، حيث غادر لونا، الذي صار يعرف بالثائر، باريس بعد إكماله للوحة الحياة الباريسية وتوجه إلى مدريد، وبعدها إلى مانيلا، الفلبين عام 1894م ليقوم بدوره في الثورة الفلبينية وحرب الاستقلال عام 1896م، ليتم اعتقاله وشقيقه أنطونيو من قبل السلطات الإسبانية واتهامهما بتنظيم ثورة مع جمعية «كاتيبونان» السرية، ليشارك بعدها في الحكومة الثورية بقبول التعيين من قبل المجلس التنفيذي للحكومة الثورية الفلبينية كعضو في وفد باريس الذي يعمل من أجل الاعتراف الدبلوماسي بجمهورية الفلبين، لذلك تعتبر لوحة الحياة الباريسية آخر عمل رئيسي للونا خلال فترة ما بعد الأكاديمية وحياته في باريس.

وصف
تعطي اللوحة طابعاً مرحاً وجواً مريحاً، وتصور مشهداً داخل مقهى لامرأة بفستان بنفسجي فاتح وقبعة مزينة بالأزهار وأمامها أكواب عصير فارغة، ليظهر أنها كانت بصحبة مجموعة من الأصدقاء الذين غادروا قبل فترة بسيطة، ولعل وضعية المرأة نفسها تشير إلى أنها تستعد لمغادرة المقهى، فيما يظهر ثلاثة رجال في أقصى الزاوية اليسرى من اللوحة من بينهم الفنان نفسه إلى جانب رفاق له، حيث تمثل اللوحة لمحة من حياة لونا في عاصمة فرنسا.

هؤلاء الرجال الثلاثة، بمن فيهم الفنان، هم شخصيات تعتبر مهمة، إذ إنهم أبطال في التاريخ الفلبيني، حيث كانوا، داخل هذا المقهى، يناقشون قضايا سياسية قبيل الأحداث المصيرية في الفلبين، ويظهر هؤلاء الرجال، لونا وخوسيه وباوتيستا، وهم يرتدون ملابس ذات طابع أوروبي متمثلة في القبعات والمعاطف الرسمية، ويوصف هؤلاء الرجال الذين يبدو أنهم في غاية الاستمتاع والثقة بالنفس، برجال الفلبين، أي ثوارها، يظهرون في مشهد هذه اللوحة وقد اعتنقوا الحياة الغربية لكنهم ظلوا أوفياء لشاغلهم الأكبر وهو الوطن وقضيته وثورته، ويظهر خوسيه في اللوحة بظهره قليلاً، بينما يجلس لونا في المنتصف بمزاج جيد، بينما موقع باوتيستا، هو أقرب إلى الفتاة، فيما يوجهون جميعاً أبصارهم نحو السيدة الجميلة، ويرمقونها بنظرات فضولية، وهنا يظهر الاختلاف الثقافي الذي عمل الفنان على إبرازه في العمل الفني، وتم تعزيز أجواء اللوحة الحميمية عن طريق رصد تفاصيل مثل: القبعة والرداء المهملان والكرسي والمعطف على الأريكة.

اللوحة وجدت اقبالاً كبيراً، واعتبرت أيقونة فنية جسدت الحياة الباريسية، وأشار النقد إلى أنها تضمنت الأفكار غير الملموسة للوعي الفلبيني، وأظهرت أيضاً موهبة لونا كرسام بارع، استطاع أن يصنع حالة جمالية متكاملة عبر توظيف الألوان المشرقة المفعمة بالحياة وضربات الفرشاة.
انتقلت اللوحة إلى مزادات ومعارض كثيرة، وعرضت فيها مبالغ ضخمة، وفازت بجوائز عدة، إلى أن استقرت في المتحف الوطني للفنون الجميلة في الفلبين.

الخليج

زر الذهاب إلى الأعلى