هنا اوروبا

كيف أنقذت بلدة فرنسية آلاف اليهود من موت محقق؟

على هضبة تعصف بها الريح بإقليم اللوار الأعلى بفرنسا تقع بلدة تلفها الأسرار، أنقذ ساكنوها آلاف اليهود من الترحيل ومن موت شبه محقق خلال الحرب العالمية الثانية عبر سبل مدهشة للمقاومة السلمية. تلك هي "شامبون سور لينيون"، التي يشهد متحفها التذكاري عن بسالتها إبان الحرب، وإن أبقى الزمن كثيرا من حكاياتها طي الكتمان.

تقع شامبون على مسافة 88 كيلومترا جنوب غربي ليون بين غابات ومراع بهضبة فيفاريه لينيون، متوارية عن أعين الكثير من زوار وسط فرنسا. وعلى مسافة أربعين كيلومترا إلى الغرب تقع مدينة لوبوي أون فيليه الشهيرة بمنطقة أوفرني حيث أعمدة الصخور البركانية التي تتصدر المشهد.

وعلى مسافة عشرين كيلومترا إلى الشمال الشرقي تقع بلدة سان بونيه لوفروا مسقط رأس الطاهي الشهير ريجي ماركون، وقِبلة عشاق التذوق. وتحفها شمالا وجنوبا مناطق طبيعية خلابة كحدائق بيلا ومرتفعات أرديش. ونظرا لكثرة المقاصد من حولها، لا غرو أن الزوار كثيرا ما لا ينتبهون إلى شامبون، تلك البلدة الصغيرة التي يقطنها اليوم نحو 2500 شخص.

وبسبب موقعها النائي لاذ بها الفرنسيون البروتستانت الهوغونوت هربا من القمع الديني في القرن السابع عشر. ومازالت المنطقة تعرف بـ"جبل البروتستانت" لهذا السبب.

وخلال الحرب العالمية الثانية، حين زج بثمانين ألف يهودي فرنسي إلى معسكرات الاعتقال، ساعدت عزلة تلك البلدة على إنقاذ أكثر من ثلاثة آلاف يهودي خبأهم السكان ببين ظهرانيها.

المتحف التذكاري في بلدة شامبونمصدر الصورةLIEU DE MÉMOIREImage captionيحكي متحف بالبلدة عن شجاعة سكانها، وإن طوى الزمن كثيرا من حكاياتهم

يقول بيتر غروس، المؤلف الذي روى قصة تلك البلدة في كتابه "ملاذ آمن": "دون الإقلال من بسالة السكان وشهامتهم، ممن خاطروا بحياتهم لحماية أغراب لا تربطهم بهم صلة، لعبت الجغرافيا دورا لا يستهان به، فالغابات تحيطها من كل جانب والقرى في هذه الناحية متباعدة وقليلة، وليس هناك أفضل من تلك البلدة ليتوارى بها بشر ممن يطاردونهم".

واليوم باتت أعداد متزايدة من الزوار تجد طريقها إلى متحف بالبلدة، يحمل اسم "مكان للذكرى"، إذ يحكي قصة شامبون خلال الحرب العالمية الثانية. والمتحف مكون من طابقين، بالطابق الأعلى سرد تسلسل تاريخي حي لماضيها، بينما في الطابق الأسفل، هناك شاشات وسماعات تحكي روايات عاينها شهود بأنفسهم.

يعتمد المتحف نمطا من الوضوح والبساطة دون مبالغة، وتكسوه ملامح شتاء اللوار الأعلى، وتكسو محيطه أشجار البتولا التي تطل كأشباح بيضاء عارية، مذكرة بأخطار جمة لاحقت الفارين عبر شتاء قارس، وثلج متساقط ورياح عاصفة بين تلال شامبون.

وبينما يتابع المرء لوحات العرض ويصغي لتسجيلات لشهادات أهل البلدة، يلح باستمرار سؤال "لماذا تلك البلدة؟".

وربما تكمن الإجابة في أنه فضلا عن مكانها المنعزل، لم تبرح مخيلة سكانها، وغالبيتهم من البروتستانت، ذكرى من اضطهدوا قبلا من طائفتهم من الهوغونوت؛ فتعاطفوا مع ما ألمَّ باليهود في ظل نظام حكومة فيشي المتعاون مع النازي في فرنسا.

ففي فرنسا تدنت أعداد البروتستانت بعد القرن السابع عشر جراء الاضطهاد الشديد حتى باتت نسبتهم ضئيلة للغاية بين سكان البلاد الحاليين، ومن ثم شعر كثير من أهل شامبون بأن من واجبهم مد يد العون لأقلية أخرى مضطهدة.

لكن المحرك الرئيسي لمقاومة سكان شامبون كان زعيمها الروحي القس آندريه تروكمي وزوجته ماغدا، إذ حشدا معا سكان البلدة وأعضاء كنيستهم للمساهمة في إخفاء اللاجئين اليهود في الغرف العليا والحظائر والنُزُل والأقبية.

بلدة شامبونمصدر الصورةALAMYImage captionيعتقد أن سكان شامبون وغالبيتهم من البروتستانت تعاطفوا مع اليهود إذ لم يبرح ذاكرتهم اضطهاد فرنسا تاريخيا للهوغونوت البروتستانت

كانت الأوضاع قد تردت بشكل سريع بعد إصدار حكومة فيشي مرسوما عام 1940 أخطر اليهود بضرورة التقدم للإبلاغ عن أماكن وجودهم وفرض قيود مشددة على عملهم وتنقلهم، مع تسليم كافة اللاجئين الأجانب.

وتناقل اللاجئون فيما بينهم أمر تلك البلدة التي توفر الحماية فقصدوا شامبون سيرا على الأقدام. وتذكر ماغدا تروكمي في اللقاءات التي سجلت معها لاحقا تفاصيل إحدى ليالي عام 1940 حين وصلت امرأة يهودية إلى الكنيسة وقد أخذ جسدها يتجمد بعد أن فرت من ألمانيا النازية واجتازت أراضي فرنسا المحتلة حتى وصلت إلى شامبون.

ونظمت هيئات إنسانية نقل أعداد أخرى إلى القرية بعد أن قصد أندريه تروكمي هيئة تابعة لـ "جمعية الأصدقاء الدينية" للمسيحيين البروتستانت خططت لتهريب أطفال لمكان آمن. وتطوع تروكمي ببلدته كملجأ.

ومن شامبون تم تهريب الكثير من اللاجئين عبر الجبال إلى سويسرا ليستقبلهم أعضاء آخرون بالمقاومة ضمن شبكة من المتطوعين البروتستانت. وسرعان ما انضم آخرون لهذا التحرك المقاوم بخلاف البروتستانت ليشمل بلدات أخرى كبلدة تانس وبلدة فاي سور لينيون، ونجحوا في استقطاب عناصر من الشرطة كانت حكومة فيشي قد كلفتهم بملاحقة اليهود في شامبون.

ولم يتحدث أحد عما دار في البلدة مخاطرين بحياتهم، فعقوبة مساعدة اليهود كانت الترحيل أو الموت، كما حدث لأحد أبناء عمومة القس نفسه، دانيال تروكمي، عضو المقاومة الذي رُحِّل لمعسكر مايدانيك عام 1943 حيث قتل لاحقا.

القس أندريه تروكميمصدر الصورةALAMYImage captionتزعم القس أندريه تروكمي وزوجته ماغدا جهود المقاومة في شامبون

وواجه الباحثون صعوبة جمة في كشف تفاصيل قصة البلدة بسبب التكتم التام الذي ساد خلال تلك الأحداث.

تقول عزيزة غريل-ماريوت، التي شاركت في تصميم المتحف بمساعدة آخرين: "أولا واجهتنا مسألة تجميع الشهادات وتحديد الأشخاص الذين آووا آخرين، أو أنقذوا آخرين، ومن تم إنقاذهم، والمفاضلة بين انتقاء الشهادات أو سردها جميعا".

وتعتبر غريل-ماريوت أن للمتحف أهمية توعوية نظرا للأحداث الراهنة. وتقول: "للمتحف دور في توعية الأجيال الأصغر ممن سيلحظون بالقطع تشابها مع ما يجري اليوم مع أزمة اللاجئين".

تشيع بالبلدة أجواء هادئة وتصطف بيوتها المبنية بالحجر وسقوف القرميد بطول شارعها الرئيسي، بينما تبدو في الأفق أشجار الغابات القريبة.

وبالبلدة آثار أخرى، فمقابل المتحف تقف الكنيسة البروتستانتية المبنية بالجرانيت والتي تعود لعام 1821 وقد شيدت على أنقاض كنيسة أقدم أحرقت بالكامل. وفي عام 1979 نصبت لوحة تذكارية لتخليد شجاعة السكان البروتستانت بالبلدة باعتبارهم عصب المقاومة في شامبون.

وفي مدينة القدس نصبت لوحة بمركز ياد فاشيم لذكرى ضحايا الهولوكوست لتكريم 40 شخصا من أبناء شامبون – بينهم أندريه وماغدا تروكمي باعتبارهم "أبرار بين الأمم"، وهو الوصف الذي يطلقه المركز على من خاطروا بحياتهم من غير اليهود لإنقاذ اليهود خلال الهولوكوست.

وفي عام 1972 سافرت ماغدا تروكمي إلى القدس لتغرس شجرة في ساحة مركز ياد فاشيم تكريما لزوجها الذي رحل قبل ذلك بعام. ورغم كثرة المكرمين من أبناء البلدة، يتحلى سكان شامبون بالتواضع ولا يبادرون بالحديث عن جهود المقاومة إبان الحرب.

متحف شامبونمصدر الصورةLIEU DE MÉMOIREImage captionتقول عزيزة غريل-ماريوت إن متحف شامبون منوط به توعية الأجيال الجديدة ممن سيلحظون تشابها مع ما يجري اليوم مع اللاجئين

ويقول غروس، الذي اعتمد في كتابه على مقابلات أجراها مع سكان شامبون: "سكان البلدة شأنهم شأن سكان القرى في كثير من مناطق العالم لا يبادرون بالحديث عن المقاومة ولا ينتبهون كثيرا لما فعلوه".

ولكن مع الوقت بدأت قصص أبطال تلك التلال تجوب العالم، واليوم تصل رحلات مدرسية من أنحاء مختلفة من فرنسا للاطلاع على تاريخ البلدة بينما يتوافد زوار أجانب على تلك التلال؛ حتى أن متحف شامبون سجل 11 ألفا و280 زائرا عام 2017 في زيادة مستمرة منذ اليوم الذي فتح فيه أبوابه عام 2013.

وبالنسبة لعمدة البلدة السيدة إليان موكييه-موت، يعكس المظهر البسيط للمتحف طبيعة السكان، وتقول: "أردنا أن يتماشى المتحف مع ما يعرف عن سكان البلدة من تواضع ورغبة في قص التاريخ دون مباهاة، ليعلم أبناء اليوم أنه مهما كانت الصعاب والظروف التاريخية بإمكان المرء أن يفعل ما يرضي ضميره".

 

 

 

 

 

 

 

 

bbc

زر الذهاب إلى الأعلى