مقالات رئيس التحرير

لله وللتاريخ..الفريق الركن سلطان هاشم كما عرفته..؟ رجل احترمه العدو قبل الصديق – شهادة عن قرب

 

د. علي الجابري

 

*هذا المقال نشر قبل سنوات بعد صدور حكم الاعدام على الفريق سلطان هاشم احمد وزير الدفاع العراقي الاسبق ، نعيد نشره هنا بالتزامن مع اعلان وفاته في المعتقل 

 

لا أود في هذا المقال أن أتحدث عن سجايا وزير الدفاع العراقي سلطان هاشم احمد ومهنيته وحرفيته العسكرية ودوره في الدفاع عن العراق منذ أن ارتدى بزته العسكرية وانخرط في صفوف الجيش العراقي الباسل وحتى وقوفه بصلابة وعنفوان وكبرياء بزيه العراقي الأصيل أمام سجانيه وأمام من يطلقون على أنفسهم قضاة ينطقون باسم الشعب؟؟ مع أن الشعب ذاته لا يعرف كيف أتوا ومن جاء بهم؟ ومن خولهم أن ينطقوا باسمهم في عصر الاحتلال وسيادة شريعة الغاب التي لم تبق ولم تذر، في بلد وجد أرضه استبيحت في ليلة وضحاها، حتى بات جهلاؤه قضاة وحكام، وتحول عمداء القوم وسادة الرجال متهمون تلاحقهم أصابع اتهام من ساروا في ركب المحتل قبل المحتل نفسه؟؟ 

فأي زمن أغبر هذا؟ وأي انحطاط نحن فيه اليوم؟ وأي مهزلة أتت على الأخضر واليابس من دون تمييز بعد أن ألقينا بأعرافنا وتقاليدنا وأصولنا جانبا مقابل حفنة دولارات رخيصة أو كراسي متهرئة ستقود الطامعين بها إلى ما لا يحمد عقباه وإن طال الأمد وأرخيت الحبال؟؟

 

أعود لأقول إنني عرفت اسم سلطان هاشم احمد أولاً من مذكرات شوارتزكوف الذي كتب انه وقف أمام قائد عراقي محنك ومحترف أدار المفاوضات معه بحنكةٍ وبراعة واعتدادٍ بالنفس في ما أطلق عليه حينها "باجتماع الخيمة" في صفوان عام 1991 بعد الانسحاب العراقي من الكويت.. حتى انه – والقول لشوارتزكوف – لم يشعر انه أمام مقاتل منهزم كما كان يفترض هو، بل أمام رجل يعرف تقاليد العسكرية وأصولها وعنفوانها، إلى درجة انه رفض أن يسلم سلاحه قبل الدخول إلى طاولة المفاوضات في الخيمة إلا بعد أن يسلم القائد الأميركي سلاحه هو الآخر؟؟ وأجبرهم على فعل ذلك!!

 

هذا الأمر دفعني إلى أن أسعى يوما من الأيام وبحكم عملي الصحفي إلى أن اجري مقابلة صحفية مع الفريق الركن سلطان هاشم احمد عندما أصبح وزيرا للدفاع.. ومن كان يعرفه جيدا وقتها يدرك انه رجل اعتاد أن يكون بعيد عن الأضواء والإعلام والمقابلات الصحفية حتى انه لم يدلِ بأي حديثٍ صحفي قبل ذلك الوقت على حد علمي..

 

حاولت مراراً وتكراراً حتى تمكنت من الحصول على موافقته لإجراء مقابلة صحفية يتحدث فيها عن ما جرى خلال اجتماع الخيمة في صفوان بعد سنوات عديدة من تلك الواقعة، وهي أول مرة يتحدث فيها مسؤول عراقي عن تلك المفاوضات ونستمع إلى الجزء الآخر من الرواية التي سمعناها وقرأناها من وجهة النظر الأميركية فقط طيلة السنوات التي مضت..

 

ذهبت في الموعد المحدد الى مقره بوزارة الدفاع العراقية ودخلت إلى مكتبه ، فإذا بي أمام رجل عربي يتقن أصول الضيافة العربية، ويحمل من شمائل العرب وتقاليدهم وأخلاقهم الرفيعة ما يُخجل القادم إليه.. وأمام هذا الترحاب والبساطة في التعامل التي قابلني بها ضيفي كانت عيناي تدوران في كل محاور مكتبه لاستكشاف المكان الذي يدير منه وزير الدفاع العراقي اكبر واهم وزارة في العراق، فإذا به بسيطا متواضعا عمليا كصاحبه..

قلت له أدرك أن وقتك ضيق وأمامك التزامات كبيرة إلا إنني أود أن أعيد ذاكرتك إلى الوراء وتحديدا إلى عام 1991 لتحدثني عن طبيعة المفاوضات التي دارت في اجتماع الخيمة.. بدأ محدثي وكأنه يتحدث عن واقعة حدثت البارحة وليس قبل سنوات..

 

شرح له كل ما دار من لحظة تكليفه بالمهمة حتى وصوله إلى مكان المفاوضات والى آخر تفاصيلها المعروفة التي نشرتها حينها في أهم وأوسع حوار صحفي أجريته مع مسؤول عراقي لأنه كان وقتها اخطر وأجرأ حوار تنشره صحيفة عراقية وقتها.. اشد ما علق في ذاكرتي وأثار انتباهي أن هذا الرجل كان صريحا جريئا واضحا يقول ما له وما عليه من دون تزويق أو تحريف أو مغالطات، بل انه لم يتحدث عن نفسه كما تحدث عنه شوارتزكوف (عدوه في ذلك الحين والمفاوض على الجانب الأميركي الذي لم يخفي إعجابه به)؟

 

وأنا استمع إليه أدركت جيدا لماذا أٌعجب به عدوه.. وتلك ميزة لا تجدها إلا في حالات نادرة.. أنا أمام رجل يحترم مهنته ويحافظ على تقاليدها ويحترم وينفذ أوامر سلطته التي وضعته في هذا المكان ويكون أمينا عليها.. فضلا عن ذلك فطبيعته وفطرته وتقاليد نشأته الأصيلة جعلت منه إنسانا صادقا يقول الحق ولو كان على نفسه، بسيطا إلى درجة لم أكد استوعبها، شامخا إلى درجة الكمال، متسامحا إلى اللانهاية.

 

انتهى لقائي مع الرجل وخرجت منه فرحا فخورا به قبل أن افخر باني أول من اقنع سلطان هاشم الصامت إعلاميا أن يتحدث للتاريخ.. ومنذ ذلك الوقت لم أره وجها لوجه إلا في أثناء العدوان الأميركي على العراق 2003 عندما حضر إلى المركز الإعلامي في فندق فلسطين ميريديان في بغداد بصحبة وزير الأعلام انذاك محمد سعيد الصحاف ليتحدث للصحفيين عن مجريات العدوان وطبيعة العمليات العسكرية التي كانت تجري في مختلف ارض العراق.. استغرب كثيرون أن وزير الدفاع العراقي كان يتحدث بصراحة متناهية وقال انه يتوقع أن تصل القوات الأميركية إلى بغداد في غضون أسبوع؟؟ وهو أمر أعابه عليه الكثيرون؟؟

 

إلا إنني لم استغرب منه طرحه هذا.. فأنا أمام رجل مهني محترف يدرك ما يجري على الأرض وما هي النتائج التي ستترتب اثر ذلك، فكان عفويا صادقا كعادته، شجاعا صلبا يدرك أن خسارة معركة ليست نهاية العالم، فهناك صفحات كثيرة لم تبدأ بعد، ووصول القوات الأميركية إلى بغداد لا يعني أن أهل العراق يمكن أن يسكتوا على احتلال بلدهم وينثروا الورود في طريق الدبابات الأميركية!!

 

صدق ظنه وحصل ما حصل؟؟ إلا أن ما لم يكن في الحسبان أن يحاكم هذا الجبل العراقي الأشم والنخلة الباسقة كمجرم حرب من مجرمي الحرب أنفسهم، ومن خونة الديار وصغار القوم الذين لم يكن أمامهم إلا أن يلبوا إرادة أسيادهم طائعين أذلاء من دون أن يدركوا أنهم يوجهون اهانة لجيشهم الذي ذاد عن الديار سنوات طوال وقدم التضحيات الجسام من اجل أن يبقى العراق عصيا على الطامعين به منذ أن وجدت الخليقة، ومنذ أن وجد العراق، ومنذ أن ابتلاه الله بجار سوء.

 

سلطان هاشم احمد رجل أرادوا له أن يدفع ثمن دفاع جيش العراق عن الأرض والعرض، حاكموه على كل شظية وإصابة اخترقت جسده وهو يدافع ويذود عن ثرى العراق الطاهر، وأرادوا من دون أن يشعروا أن يمنحوه شرف الاستشهاد من اجله ومن اجل شرف الجندية في العراق..

 

فأي مهزلة تلك التي نحن فيها، وأي عار سيلحق بالصامتين على اغتياله وغدره؟؟ وأي مصيبة ستحل علينا أكثر مما نحن فيه، ونحن نضحي برجالنا ونذبحهم من دون أن نذرف عليهم دمعة لأجل عيون جارة السوء اللعينة التي لن يهدأ لها بال إلا بعد أن يتم تصفية كل رجال العراق الذين تجرأوا على حمل السلاح من اجل الدفاع عن العراق..

 

لن أطالب في هذا المقال أن يوقف حكم الإعدام عن سلطان هاشم، فأنا آخر من يمكن أن تستمع له حكومة العار المنصبة، إلا إنني أود أن أخاطبه في ساعاته الأخيرة وأقول له "عشت رجلا وأسرت رجلا ووقفت رجلا أمام سجانيك وستموت رجلا بإرادة الله رغما عن أرادة سجانيك، ويكفيك فخرا أن عدوك قد اعترف بخلقك وشرفك وأمانتك ومهنيتك وطالب بوقف مهزلة محاكمتك وحكم الإعدام الصادر بحقك.. فكم أنت كبير يا أبا احمد؟؟"..

 

 

# توفي الفريق أول الركن سلطان هاشم احمد في يوم الاحد 19 يوليو/ تموز 2020

 

زر الذهاب إلى الأعلى