آراء

موفق الخطاب: تحت المجهر.. عاشوراء درسٌ عظيم للارتقاء

⁠عاشوراءُ يومٌ عظيمٌ من أيّامِ اللهِ، أرادهُ المولى أن يكون فَيْصَلًا بين الحقِّ والباطل، وأن يُعليَ به اللهُ منزلةَ الشهداءِ ويُخلِّدَ ذِكرَهم، حاملًا لواءَهم سَيِّدَ الشهداءِ. وقد أعدَّهُ اللهُ لهذا اليوم تشريفًا لقدره وتعظيمًا، فجادَ بنفسهِ الزكيّةِ لِيَرسُمَ للأجيالِ المعنى الحقيقي للثورةِ على الظُّلم، ويُبَيِّنَ طريقَ نَيْلِ الحرِّيّة؛ فهي لا تُمنَحُ أبدًا دونَ تضحية، ولا يُنالُها الذينَ يَختبِئونَ خلفَ الكواليس، ولا الذينَ ينظرونَ للواقعِ من طرفٍ خفي، ولا مَن يتربّصونَ من خلفِ الحدود، ولا الذينَ يَستقوونَ بالأجنبيِّ لليومِ الموعود.

⁠تعالَوا بنا سادتي نستعرضُ معكم كيف كان جيلُنا يُحيي هذه الشعائر، من كلتا الطائفتَين، بعيدًا عن التَّعصُّبِ والطائفيّة، حينما كانت تجمعُنا البراءة و الفِطرةُ السليمةُ ونقاءُ الهُويّةِ الوطنيّة. فالحُسينُ هو فخرُ وهُويّةُ كلِّ مسلم، ولم يَختصَّه اللهُ بمذهبٍ دونَ آخر.

في طفولتنا، كنّا لا نفقهُ شيئًا كثيرًا عن المذاهبِ واختلافاتِها الفقهية، ومنذ ذلكَ الحين تَشكّلت لدى كثيرٍ من أبناءِ جيلِنا صورةٌ مؤلمةٌ عن تلك الواقعةِ، بعد أن سمعْنا وقرأْنا وقَصَّ علينا آباؤنا واقعةَ الطفِّ الحزينة، فكُنّا نتألّمُ ونتفاعلُ معها، ونصطفُّ منذ ساعاتِ الفجرِ مع مجموعةٍ من الصِّبية، لنُحيِّيَ جمهورَ الزُّوّارِ، المتوجِّه بعضُهم إلى كربلاء سيرًا على الأقدام، والآخر إلى مرقدي الإمامينِ الجوادَينِ عليهما السلام، لِنُقدِّم لهم الماءَ وشيئًا من الطّعامِ والغذاء، وكان الزّحفُ المهيبُ يسودُه الحزنُ دونَ تهريج، ولا راياتٍ طائفيّة، ولا تَطبير، ولا عُوَيل.

⁠وبعد أن تَجتازَ الجُموعُ جسرَ الأئمّةِ بيُسرٍ وسلام، نعودُ أدرَاجَنا إلى بيوتِنا مُنهَكين، لنتفاجأ أن تلك البيوتَ البسيطةَ يَلفُّها الصمتُ والحزن، وكأنّ على رؤوسِ أهلِها الطَّير، ولا نسمعُ إلا هَديرَ المِذياعِ الذي يبثُّ واقعةَ الطفِّ بصوتٍ شجيٍّ للرّاحل عبد الزهره الكعبي، وكانت عُيونُنا البريئةُ تَنهَمرُ عند مشاهدتِنا دُموعَ أمهاتِنا تجري من مقلِهنَّ، لكن دونَ جَزَعٍ ولا عُويل.
وحقيقةً، كان أداءُ الكعبي مُؤثِّرًا حتى إنّنا لم نكن نفقهُ كثيرًا ممّا يقول، وتبيّن لاحقًا أن القصةَ كُتِبت بطريقةٍ تراجيديّةٍ لا تملكُ عند سماعِها إلا البُكاءَ بحرقة، دون أن يُسمحَ لعقلِك بالتدبُّرِ والتفكيرِ ومعرفةِ ما جرى دون تحريفٍ أو تأويل.

ومضت بنا السُّنونُ سريعًا ونحنُ على هذا المِنوال، إلى أن كبُرنا، وتصلَّبَ عودُنا، ومن خلالِ شبكةِ علاقاتِنا الاجتماعيّة ومقاعدِ الدراسةِ الجامعيّة، علمنا أن هناك طائفتَينِ كريمتَين:
منهم من يتعبَّدُ على طريقةِ أهلِ السُّنّةِ والجماعة، ويُطلَق عليهم: “أهلُ السنّةِ والجماعة”، على احدى اامذاهب: الحنفي، الشافعي، الحنبلي، والمالكي.
ومنهم من يتعبَّد على المذهبِ الجعفريّ، ويُطلق عليهم: “الشيعةُ الجعفريّة”، ومنهم الاثنا عشريّة، والزيديّة، والإسماعيليّة، والأباضيّة.
ولم يكن أحدٌ منّا يتجرّأ أن يسألَ زميلَه عن مذهبِه؛ فهذا شأنٌ تعبُّديٌّ خاص يجبُ احترامُه، وكذلك احترامُ رموزِه وتقاليدِه. ولم تكن المذاهبُ يومًا مثارَ جدل.

⁠ولا أتذكّر أبدًا أنّني رأيتُ، مع هذه الذكرى، في كربلاء أو النجف أو الكاظميْن أو سامرّاء، رايةً مسيئةً تُستهدفُ بها الطائفةُ الأخرى، ولا قرأتُ لافتةً تمسُّ بالسوءِ رمزًا إسلاميًّا، ولم نسمع تصريحًا ولا تلميحًا بالإساءةِ إلى أيّ خليفةٍ أو صحابيٍّ جليل، أو الانتقاص من شأنه، أو قذفٍ لأمّهاتِ المؤمنين، رضوانُ اللهِ عليهم، خاصّةً الصدِّيقةَ أمَّ المؤمنين، رضيَ اللهُ عنها وعن أبيها.
وعلى عكسِ ما نُشاهده اليوم — ويا للأسف — فقد أصبح مستساغًا، بل عُرفًا، عند بعض من يُسمّون أنفسَهم قادةً أو رؤساءَ أحزاب أو شعراءَ أو رَواديْد، ليجنوا من خلفِها المزيد ، بعد أن أصمَّ مجلسُ النوابِ آذانَه، وأرخى القضاءُ قبضتَه عن محاسبةِ من يتعمّدُ تمزيقَ اللُّحمةِ الوطنيّة.

⁠وعندما أُقارِنُ ما يجري اليوم بما عهدناه لعقود، أكادُ أقعُ في حيرةٍ من أمري!
فهل قصَّرَ الأسلافُ مع أحفادِهم فلم يتوارثوا احترامَ الآخر والاعتدال؟
أم أنّهم كانوا يُمارسون معنا التقيّةَ خوفًا من بطشِ الدولة والاعتقال؟
أم أنَّ الأحزابَ الدينيّة المؤدلَجة، التي خرجت من قمقمِها بعد أن فكَّ المحتلُّ عِقالَها، وهي مَن ترعَرت في رَحِمِ إيران ورضعت الحقدَ منها، هي مَن تقفُ وراءَ ذلك ؟ وهي من عكفت هي على تطوير الصناعة العسكرية والبرنامج النووي ورمت الينا بالخونة والعاهات ليحولوا ايام العراقيين عويلا وبكاءً فما أن تخرج من فاجعة حتى يلحقوك بالأخرى ويضل العراقي المسكين يبكي ويلطم و ويهرول !!
وقد تمخّض خلال 23 عامًا جيلٍ مَسْخٍ لا يعرف عن الإسلامِ المعتدل شيئًا، ولا عن التطور والرقي ولا التعايشِ والتسامحِ سبيلًا؟

إنّ كلّ ما نُشاهده اليوم من تطرُّفٍ مقيت، فهو لا يمتُّ إلى عقائدِ الشيعةِ العروبيّين بصلة؛ فاستذكارُ الواقعةِ واستلهامُ دُروسِها شيء، وبثُّ الكراهيةِ، وملءُ القلوبِ حَنَقًا، والحثُّ على الثأرِ والانتقامِ من أجيالٍ لا علاقةَ لها بما وقع قبل 1400 عام، شيءٌ آخر.
فكلُّ ما نشاهدُه اليوم من تلوّثٍ فكريٍّ وبصري لهذه الذكرى العظيمة قد حدث بعد أن هوى العراقُ في براثنِ الاحتلالِ الأمريكيّ ثم تسليمه الى حليفها الإيراني وللأسف فقد انسحبَ ذلك إلى العامّةِ ولم يقتصرْ على العراقِ فقط.

⁠ومن يَنفخُ في نارِ الفتنةِ اليوم لا يَقتصرُ على بعضِ المعمّمينَ ممّن اعتلَوا المنابرَ زورًا، بل الأكثرُ سوءًا منهم الساسةُ من قادةِ الأحزابِ الدينيّة التي تتوارث السلطة ، الذين يَنشطونَ هذه الأيام، وتراهم وسطَ الحشود يُقدِّمون الطعامَ للزُّوّار، وهم مَن حَرَموا الملايين أن يَحيَوا بكرامة، وسَرَقوا منهم خيراتِ بلادهم، وتركوهم يعانونَ العَوزَ وشَظفَ العيشِ والأسقام، وتراهم يَذرفون دُموعَ التماسيح وما زالت أيديهم ملوّثةً بدماءِ الأبرياء من ثوّارِ تشرين والمُغيَّبين .
لا جَرمَ أنَّهم أشدُّ كفرًا مِمَّن بطشَ بالحسينِ وآلِ بيتهِ الكرام، لِيُوظِّفوا هذه الفاجعةَ لِقادمِ الأيام.

⁠تدهورَ الحالُ وتفكّكت الأواصرُ، بعد أن غاب عن المشهدِ، أو عُزِل، أو صُفِّيَ، أهلُ العِلمِ والدرايةِ والاعتدال، ليُؤسِّسَ الجُهّالُ والحاقدون من بعدِهم لمرحلةٍ جديدةٍ، ضاعت معها كلُّ المعالِمِ الجميلةِ والعلاقاتِ الحَميمية، واللُّحمةِ الدينيّةِ والوطنيّة، التي بقيَت متماسكةً منذ قرون.
فتحولت هذه الواقعةُ العظيمة، التي كانت محطَّ اجتماعٍ وتآلُفٍ واستذكارٍ لقِيَمِ الشجاعةِ والبطولةِ والتضحيةِ والإيثارِ لسيدِ الشهداءِ، عليه السلام، إلى حدثٍ يُؤسِّسُ للفُرقة، وزرعِ الفتنة، والأحقاد، والحثِّ على الانتقام، والثأر، وبثِّ الكراهية، بتزويرٍ مُتعمدٍ للحقائقِ التاريخيّة، وتحميلِ الأمّةِ وزرَ استشهادِ الإمامِ الحسين، عليه السلام!

هذا هو دَيدنُ بعضِ سياسيّي العراقِ وأحزابِهم اليوم، تاركين وراءَهم بلدًا مُدمَّرًا، وشعبًا يئنُّ من جَورِ حُكمِهم وفسادِهم، وما زالوا يُستغفِلون البُسطاء، ويَنبشون في خلافاتٍ من وَحيِ عُقولِهم المريضة. وستزداد مع قابل الايام النفخ في الطائفية لانها الطريق الوحيد لدغدغة المشاعر والإنتخابات على الأبواب.
فمتى ما وعى الشّعبُ من سباته، شارفتِ اللعبةُ على نهايتِها .

سلامٌ عليك يا سبطَ رسولِ الله، وآلَ بيتِكَ، يومَ وُلِدتَ، ويومَ فاضت روحُكَ شهيدًا، ويومَ تُبعثُ حيًّا.

جميع المقالات تعبر عن رأي كتابها ولا تمثل يورو تايمز

زر الذهاب إلى الأعلى