آراء

داود الفرحان: نوادي الفوضى الإلكترونية تواجه الغراب والذئب

لم يعد غريباً أن نعرف أن هناك جامعات كبرى تُدرّس «حرب الإلكترونيات». وهي حرب ليست فيها خنادق ولا غواصات ولا دبابات ولا سيوف ولا خناجر ولا رشاشات ولا أسلحة أوتوماتيكية ولا دروع ولا ناقلات جنود ولا مدافع ولا مظلات… ولا أي شيء مما اعتدنا مشاهدته في الأفلام الحربية مثل «ذهب مع الريح» و«مدافع نافارون» و«أطول يوم في التاريخ» و«ستالينغراد» و«بيرل هاربور» و«معركة ميدواي».
وحرب الإلكترونيات تسمع عنها ولا تراها، باستخدام تقنيات رقمية، تهدف إلى الدفاع عن مصادر الطاقة الكهربائية والاتصالات والحماية من الإرهاب الإلكتروني المضاد. وقامت الوكالات الأمنية والاستخباراتية الأميركية والروسية والبريطانية والفرنسية، مثلاً، بإنشاء مراكز خاصة للتعامل مع هذه الاحتمالات التي تحولت إلى تطبيقات عملية دفاعية في بعض الدول وهجومية في دول أخرى. وعلى وجه التحديد قامت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بتوظيف أكثر من ألف خبير معلومات أمنية، وتشكيل قوة ضاربة على مدار 24 ساعة، لمواجهة أي طرقات على الباب. ولأن الأمر تحول من الخيال إلى الواقع؛ فإن الأوامر صدرت باتخاذ خطوات مماثلة في القوات الجوية الأميركية والمباحث الفيدرالية. وحذت دول أوروبية من حلف «الناتو» حذو الولايات المتحدة.
واستناداً إلى التعريف الذي اعتمدته كليات الحرب الأميركية ودول حلف «الناتو»، فإن الحرب الإلكترونية، أو الرقمية، هي «الإجراءات التي تُتخذ للتأثير بشكل سلبي على نظم المعلومات المعادية، وفي الوقت نفسه الدفاع عن النظم الأميركية و(الأطلسية)». وتتضمن أنشطة أمن المعلومات الخداع العسكري والهجمات الفيزيائية وسرقة المعلومات من أجهزة الخصم والتلاعب فيها وتخريب قواعد بياناتها، بالإضافة إلى استخدام الفيروسات لإرباك الاتصالات والاقتصاد والمؤسسات المالية… وهذه الأخيرة مؤذية جداً.
في عام 1997 قامت مجموعة من القراصنة من جنسيات مختلفة تُعرف باسم «نادي الفوضى» بالتحكم في برامج خاصة تتيح للقراصنة سرقة الأموال من أرصدة عملاء البنوك في جميع أنحاء العالم. ولا ضرورة للدخول في تفاصيل مدمرة تؤدي إلى فتح فروع لـ«نادي الفوضى» في وقت تعاني فيه البشرية من سلسلة مَرَضية فتاكة اسمها «كورونا»، فكيف إذا أضفنا إليها «كورونا مالية»؟!
ومن الأمثلة البشعة على تخريب النظم الإلكترونية في إدارة الطاقة الكهربائية، ما استخدمته الولايات المتحدة في حربها على العراق في عام 1991، حيث تشير مصادر «كلية الحرب الأميركية» الى أن قصف محطات الطاقة الكهربائية في المدن العراقية أدى بشكل مباشر وغير مباشر إلى وفاة ما بين 70 ألفاً و90 ألف مواطن عراقي؛ معظمهم من الأطفال والنساء والمرضى لعدم توفر الكهرباء. وكررت إسرائيل اللجوء إلى هذا الخيار الوحشي في هجماتها على قطاع غزة الفلسطيني.
ويتذكر العراقيون أن الولايات المتحدة مارست «ديمقراطيتها وحقوق الإنسان» التي تتشدق بها؛ حيث قصفت في تلك الحرب العدوانية مستشفى الأمراض العقلية الشهير في بغداد باسم «الشماعية» وفتكت بعشرات المرضى، وهام الناجون على وجوههم في الشوارع. وكم من الجرائم تُرتكب باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وانظروا ما حلّ بالعراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا والسودان. ومن تفعيلات الحرب الإلكترونية تصنيع طائرات تشويش إلكتروني تحت تسمية «الغراب»، أنتجتها شركتا «جنرال ديناميكس» و«غرومان»؛ وفقاً لما نشره موقع «ميليتاري – توداي»، مهامها الأساسية التشويش وإرباك رادارات وأنظمة تشغيل الأسلحة في جبهة العدو. وهي تحلق في سرب يضم مجموعات متتالية هجومية توفر لها الحماية خلال تنفيذ مهامها، وبلغت تكلفة هذا «الغراب» 40 مليون دولار مع التعديلات. إلا إن تكلفتها العالية دفعت إلى سحبها من الخدمة في عام 1998 وإحلال طائرة «العسعاس»؛ أي «الذئب»، محلها، وظلت في الخدمة حتى 2015 طبقاً لقواعد الخروج من الخدمة والتحديث وإدخال نظم متكاملة للتشويش على الاتصالات والتعامل مع أحدث صواريخ «أرض – جو». إلا إنه جرى الاحتفاظ بعدد محدود منها لدعم الحرب الإلكترونية للوحدات الاستخباراتية التابعة للقوات الجوية والبحرية الأميركية.
وفي هذا الحساب؛ فإن «نادي الفوضى» يمكن أن ينتشر من القطاع الاقتصادي كالبنوك والأهداف المالية، إلى الصحة والمستشفيات عن طريق التلاعب بالسجلات الطبية للمرضى ونوعيات الأدوية التي يتناولونها أو بث شائعات عن انتشار دماء ملوثة في المستشفيات. وفي هذه الظاهرة لا بد من عزل الأجهزة التي تحتوي هذه المعلومات الحساسة في القطاع المدني عن العالمين الداخلي والخارجي، عن طريق تقليل مخاطر الاختراقات والإرهاب الإلكتروني؛ لأن أي إجراءات أمنية اعتيادية يمكن أن تؤدي إلى نتائج غير محسوبة.
ونعود إلى منطقتنا العربية وما يعنيه حصول إيران وإسرائيل على تكنولوجيا الحرب الإلكترونية، فما يثير الذعر في الأراضي المحتلة أن تتعرض إلى هجمة إلكترونية تستهدف التشويش على مطاراتها وقواتها الجوية وراداراتها واحتمالات وقوع حوادث تصادم بين الطائرات المقلعة أو الهابطة. وإسرائيل على أي حال تملك طائرات خاصة بالحروب الإلكترونية، معظمها من الولايات المتحدة، ويمكنها رصد مصادر التهديد الإلكتروني والاستطلاعات الثابتة والمتحركة، وقد بنتها على فشلها الذريع في توقع حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 على الجبهة المصرية.
وكالعادة؛ طورت إيران الملالي «إرهابها الإلكتروني»؛ حسب خبراء أميركيين في هذا الشأن؛ أعربوا عن خشيتهم من تطوير قدرة إيران على الدخول إلى نظم التحكم الصناعي ومحطات الطاقة النووية والشبكة الكهربائية في الولايات المتحدة. وقد حاول الإيرانيون وفشلوا قبل 5 سنوات في الدخول الإلكتروني إلى سد مياه في شمال نيويورك. وفي عام 2019 أحبطت شركة «مايكروسوفت» محاولة إيرانية لاقتحام حسابات عدد كبير جداً من مختلف الشركات المصنعة لأنظمة التحكم الصناعي. لكنهم؛ كما يقول كريس ميسيرول، الخبير الأميركي في الذكاء الصناعي بـ«معهد بروكينغز» في واشنطن، «لا يستطيعون إلحاق أضرار بالطريقة التي فعلتها أميركا في اغتيال قاسم سليماني قائد (فيلق القدس) على أسوار مطار بغداد».
أما اليابان والصين وروسيا؛ فلكل منها أزياؤه ومزاجه واختياراته. فاليابان تعترف بأنها ليست في مستوى الصين أو روسيا بقدرات الحرب الإلكترونية التي تملكها، لكنها تعمل على تسريع جهودها لتعزيز هذه القدرات واللحاق بالدولتين. فهي – مثلاً – تخطط لتنظيم 7 وحدات جديدة لقوات الدفاع الإلكتروني الذاتية البرية بحلول شهر مارس (آذار) 2022، وستعمل هذه الوحدات على جمع معلومات عن الاتصالات والرادار وسبل إعاقة نشاط العدو المحتمل باستخدام الموجات الكهرومغناطيسية، التي تشمل الموجات اللاسلكية والأشعة السينية والمايكروويف. وأقر مجلس الوزراء الياباني في عام 2018 «خطة المواجهة في الدفاع والهجوم في القتال الإلكتروني الحديث» للحاق بروسيا والصين.
في الواقع؛ الصين ليست سهلة في هذا المضمار، وسبق للولايات المتحدة في يوليو (تموز) الماضي أن اتهمت بكين بالوقوف وراء هجوم إلكتروني استهدف شركة «غوغل» الأميركية وحجب خدماتها التي كان يستفيد منها أكثر من 770 مليون صيني، خصوصاً عبر الإنترنت. لكن الصين رفضت الاتهامات وقالت إن الموقع الأميركي نشر فيديوهات منسوبة لأحداث عنف في التيبت. وسارعت بكين إلى توفير بديل صيني لوسائل الاتصال الاجتماعي. ووصف مراقبون الشد والجذب بين الصين والولايات المتحدة بأنهما «حرب إلكترونية باردة». ويدرك الأميركيون أن الصين تملك كثيراً من وسائل الدفاع أو الهجوم؛ لكنها لا تكشف عن أوراقها إلا في الوقت المناسب، علاوة على قدرتها الهائلة على ضبط النفس واللسان. ولجأت مؤخراً إلى الأفلام السينمائية الصينية التي تصف الأميركيين بـ«الأشرار الإمبرياليين المتعالين»، وهو أسلوب صيني موروث من زمن الرئيس الصيني الراحل ماو تسي تونغ في الخمسينات والستينات.
ونصل إلى موسكو؛ حيث بدأ الجيش الروسي استخدام منظومة الحرب الإلكترونية في مكافحة أسراب «الدرونات» عن طريق ما تسمى «القُبّة غير الشفافة» التي تمنع الاختراقات التخريبية أو الاستطلاعية.
لقد دخل إلى الموسوعات العسكرية الحديثة لخطوط الدفاع الفضائية زائر جديد يدعى تطبيقات «الجدران النارية»… لكنها باردة حتى الآن، وهو أمر يذكرنا بالحرب الباردة بين القطبين؛ الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، أيام الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف والرئيس الأميركي جون كيندي.

نقلا عن الشرق الاوسط

زر الذهاب إلى الأعلى