آراء

د. حسن السوداني : العسل و العلقم في الانتخابات العراقية

ملعقة من العسل او الملح تغير طعم الماء الى الحلو او المالح فتشعر بالتغيير بعد ان تنتهي من تحريك السائل موضوع التجربة وهو ما نطلق عليه في البحث العلمي مصطلح "المتغير المستقل" وهي تجربة تقترب مع اليقينيات العلمية بحساب قدرة المؤثر الخارجي على تغيير الواقع الساكن غير ان جلب ملعقة من الديمقراطية ووضعها في إناء المجتمع سينتج عنها متغيرات لا يمكن تخيلها حتى في اشد الروايات الفنطازية !! فكيف مثلا ان تتخيل ان يتقبل فاحش الثراء حكم الفقير وان كان كفوا او مستحقا بدرجة ما وكيف للذي يعتقد انه وريث الحكم ان يتقبل من لم يحكم بحياته ولو دقائق!! وكيف لشيخ العشيرة قبول احد أفرادها يخطف منه وجاهة اللقب؟ وكيف للطائفي قبول غيره سواء من ملته او من غيرها؟ أسئلة تبدو إجابتها  مشوشة وغير منطقية!! فما زالت التسميات مستشرية بواقعنا العراقي والعربي  بطريقة تثير الغثيان فذلك العبد الأسود وهذا السيد الأبيض وذاك سلسل العترة المطهرة وهذا سليل المدنسة وهذه (حرمة) وتلك (رحمة) وأخرى (نقمة) فكيف نتخلص من كل ذلك ونلج عالم الديمقراطية ولعبتها الروليتية العجيبة؟

قبل أيام تسلمت رسالة من معلم ولدي الأصغر تدعوني إلى حضور فعالية انتخاب ممثل الصف الخامس الابتدائي ؟ ضحكت في سري وقلت فرصة أرى فيها هذا الابن الصموت والوديع بين أقرانه وأعيش معه لحظات استرد فيها أيامي الخوالي! بدأت مراسيم الفعالية بالترشيح الطوعي لمن يجد في  نفسه القدرة والاستعداد لخوض التجربة وفعلا رفع ثلاثة طلاب أيديهم من بينهم ابني الأصغر( الياس) وتقدموا إلى الأمام وبدأ كل منهم يقول كلماته: ثم جلسوا ووزعت الأوراق الانتخابية عليهم واحضر الصندوق الصغير الذي ستوضع فيها الأوراق ثم تطوع اثنان من الطلبة وتحت إشراف المعلم إلى فرز الأوراق وتطوع أخر إلى كتابة الأسماء على سبورة الصف ونحن جميعا نتابع كآباء هذه التجربة التي سارت بكل وداعة وحماسة, وأخيرا حسمت النتائج لصالح الياس بفارق خمسة أصوات عن زميله الأقرب في التنافس وعشرة أصوات عن زميله الآخر.. تقدم الجميع لتهنئته وخاصة زميليه المتنافسان معه لينهض الياس شاكرا الجميع على ثقتهم بفوزه للسنة الثانية على التوالي بمنصب ممثل الصف لدى إدارة المدرسة!! في البيت احتفلنا أيضا بفوز مرشحنا في انتخابات الصف وضحكنا وأشعلنا الشموع على طاولة الاحتفال تيمنا بفوزه المتجدد, لم يكن مبعث فرحي فوز ابني الصموت الوديع بل مبعثه السؤال الذي راودني بعد خروجي من هذه التجربة الجميلة: ماذا بعد سنوات طويلة او عندما يبلغ الجامعة؟ .. كيف تترسخ لديه الديمقراطية وحق الانتخاب وكيف سيشارك في الانتخابات ولمن يعطي صوته؟ أسئلة تلد أخرى تدعوني للمقارنة القصدية بين ان تربي طفلا على مبدأ وتحرم اخر منه تماما  فوضع ملعقة عسل الديمقراطية  في فم  الياس تزق له سنوات طوال كي يمضغ حلاوتها ولتنتج بعدا متوازنا بدلا من وضع طن من ملح الصوديوم  الذي سينتج اشخاصا يتباهون بالفساد ولا تنكسر عيونهم من قولة " انك فاسد" ولا ترأف قلوبهم لمنظر طفل أغفى على "بسطيته" تحت وهج الشمس الحارقة في بلد يطفو على بحر من النفط تذكرك بقول الأعشى: 

تبيتون في المشتى مِلاءٍ بطونكم      وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

الديمقراطية ايها السادة درس يتطلب النجاح فيه أشواطا وأشواط  وسنوات وتضحيات وتدريب دقيق وصبر طويل  على تجارب مدروسة وليس أمنيات كسالى جسدتها صرخة  ابن حُميدس:

علمتُ بِتَجريبِي أُمورًا جهِلْتُها       وَقَدْ تُجْهلُ الأَشياءُ قَبلَ التَّجاربِ

ومنْ ظَنَّ أَمواه الْخَضَارمِ عَذْبَةً       قَضَى بِخلاَفِ الظَّنِّ عندَ الْمشاربِ

زر الذهاب إلى الأعلى