تدوينات مختارة

فيتالي نعومكين: أوروبا قلقة من إردوغان أكثر من روسيا

بدأت روسيا في دراسة آفاق التحول المحتمل لتركيا إلى دولة مصدرة للغاز. كما هو معلوم، أعلنت تركيا مؤخراً عن اكتشاف حقل كبير للغاز الطبيعي في البحر الأسود بحجم يقارب 320 مليار متر مكعب. على الأرجح سيكون لهذا الاكتشاف تأثير على التعاون الروسي – التركي في مجال الطاقة، وعلى الوضع في أسواق الطاقة الإقليمية، وربما على سياسة القيادة التركية بشكل عام.
عند الحديث عن هذه الاحتمالات، من الضروري مراعاة عدد من الظروف. أولاً، وفقاً لما يراه ميخائيل كروتيخين، أحد أفضل الخبراء الروس في مجال إنتاج الهيدروكربونات وأسواق الطاقة، لا يزال حجم احتياطيات الغاز في الحقل المكتشَف حديثاً من قِبل تركيا بحاجة إلى التأكد منه. مع ذلك، يمكننا أن ننطلق من الحجم المعلن، وهو ما يجعل هذا الحقل مهماً للغاية. ثانياً، من الضروري معرفة ما هي المدة التي سيستغرقها تطوير الحقل البحري منذ لحظة اكتشافه حتى بدء الإنتاج. إذ إنه في الماضي، وفقاً للتجربتين الروسية والنرويجية، استغرق ذلك من 20 إلى 25 عاماً، لكن الآن وباستخدام التقنيات الحديثة والعمل المكثف، يمكن القيام بذلك بمدة أقصر. لقد بدأت مصر في إنتاج الغاز من حقل «ظُهر» في البحر المتوسط بعد عامين فقط من اكتشافه. لذلك، يتوقع الأتراك بدء الإنتاج في عام 2023، حتى مع إجراء بعض التعديلات لمراعاة حقيقة أن الحقل يقع على أعماق كبيرة، فمن المحتمل أن تتمكن أنقرة من البدء في إنتاج الغاز بحلول عام 2025.
يتوقع الخبراء الروس، مع الأخذ بالحسبان أن عامل استخراج الغاز يشكل 0.7% (إذ لا يمكن استخراج الاحتياطيات بأكملها 100%)، إمكانية أن تصبح تركيا مع مرور الوقت دولة مصدرة للغاز إلى أوروبا، وهو ما كان قد صرح به وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو.
بالطبع، سيتوقف الكثير على ديناميكية الاستهلاك المحلي لوقود الغاز في تركيا. حيث يرى كروتيخين أن الأتراك بالغوا في تقدير حجم الاستهلاك في توقعاتهم، على أمل أن يصل إلى 63 مليار متر مكعب سنوياً، ولكن في عامي 2018 و2019 استهلكت البلاد فقط 47 و49 مليار متر مكعب في السنة. في كل الأحوال، ستكون تركيا، بعد تطويرها الحقل الجديد، قادرة على الاستغناء عن الغاز الروسي. وأودّ الإشارة هنا إلى أنه بالإضافة إلى الغاز الروسي عبر الأنابيب، فإن الشركاء الأتراك يتلقونه اليوم، كما هو الحال في التعامل مع روسيا، على أساس عقود طويلة الأجل، من إيران وأذربيجان أيضاً، بالإضافة إلى استيراد الغاز الطبيعي المسال من الجزائر وقطر والولايات المتحدة والنرويج على أساس عقود فورية وبسعر منخفض وهو 54 دولاراً لكل ألف متر مكعب.
هل يُقلقُ روسيا احتمال خسارة المشتري التركي على المدى القصير أو المتوسط؟ إلى حد كبير نعم، لكن لا ينبغي، حتى في يومنا هذا، المبالغة في اعتماد تركيا على إمدادات الغاز من روسيا. فإذا أخذنا بما يقوله كروتيخين، فإنه بإمكان أنقرة الآن الاستغناء عن الإمدادات الروسية. ومع ذلك، كما يبدو لي سيتعين على المصدرين الروس بطريقة أو بأخرى تعديل سياستهم التجارية الحالية. يؤكد مسؤولون أتراك أن اكتشاف حقل الغاز سيسهم في تطوير التعاون بين تركيا وروسيا في هذا المجال، لكن من الواضح أن تخفيض سعر الغاز الروسي سيتوجب أن يكون جزءاً من هذا التعاون.
يجدر بنا التوقف بشكل منفصل عند المخاوف البيئية بشأن تطوير حقل البحر الأسود الجديد. بعض الخبراء يخشون من العواقب البيئية المحتملة، بينما يرى البعض الآخر أن هذه المخاوف مبالَغ فيها، حيث يقع الحقل المكتشف حديثاً في الجزء الأوسط من البحر الأسود ولن يضر إنتاج الغاز المنظم بشكل صحيح بسكان المناطق الساحلية أو الثروة السمكية أو المنتجعات على الشريط الساحلي في بلغاريا وتركيا نفسها.
لطالما كان لمصالح أنقرة في مجال الطاقة تأثير كبير على تشكيل مسار سياستها الخارجية وتنفيذها. يكفي النظر إلى السياسة التركية في شرق البحر المتوسط. وحسب عالم السياسة التركي المعروف ميتين غورجان، فإن الصراع على ترسيم الحدود وإنشاء مناطق اقتصادية خالصة في هذه المنطقة بين تركيا من جهة ومصر واليونان من جهة أخرى، يزيد بشكل كبير من خطر المواجهة العسكرية، وطبعاً، هناك عوامل أخرى تسهم في ذلك، وعلى وجه الخصوص، عدم قبول مصر لدعم أنقرة لحركة «الإخوان المسلمين».
كما هو معروف، فإن اليونان، والتي تدخل ضمن حلف عسكري سياسي واحد مع تركيا وهو «الناتو»، لا تعترف بمذكرة التفاهم الموقّعة بين أنقرة وحكومة الوفاق الوطني الليبية برئاسة فايز السراج، التي تنص على تعريف جديد للحدود البحرية بين البلدين. بدورها، تعد أنقرة الاتفاقات التي تم التوصل إليها بين أثينا والقاهرة في 6 أغسطس (آب) 2020 بشأن ترسيم الحدود البحرية الجديدة ومناطق اقتصادية خالصة، غير قانونية. ليس من الصعب ملاحظة أن مواقف الأطراف متنافية، ولا يوجد أحد مستعد لتقديم أي تنازلات. لم تكن تركيا مستعدة حتى للتفاوض مع اليونان ومصر (لقد أوقف الأتراك المفاوضات غير الرسمية مع أثينا والتي جرت بوساطة إسبانيا وألمانيا فور توقيع الاتفاقية اليونانية المصرية). إنها مصممة على الدفاع عن مصالحها بقوة، كما تقول. سفينة المسح الزلزالي (أورتش رئيس – Oruis Reis) كانت تحت حراسة 20 سفينة من القوات البحرية التركية إلى جانب مقاتلات F – 16، عندما وصلت في 10 أغسطس من هذه السنة إلى المنطقة المتنازع عليها في شرق البحر المتوسط، لإجراء الاستكشافات الزلزالية والجيولوجية، والتي يعدها اليونانيون منطقة اقتصادية خالصة خاصة بهم.
القلقُ في الاتحاد الأوروبي يفوق بعدة مرات قلق روسيا من احتمال تصعيد الصراع في اتجاه صدام عسكري. ربما يرجع ذلك إلى حقيقة أن تفاقم الوضع بطريقة أو بأخرى سيشوّه سمعة «الناتو».
عالم السياسة النمساوي مايكل تانتشوم، متأكد من أن أحد أسباب الصراع هو قناعة أثينا بأن جزرها العديدة الواقعة بالقرب من البر الرئيسي التركي توفر لليونان حقوقاً سيادية في مناطق واسعة من البحر المتوسط، وبالتالي حقوقاً لتطوير الموارد الطبيعية هناك. لكن أنقرة تعارض ذلك، وتطالب بمراجعة حقوق اليونان في عدد من المناطق المتنازع عليها في البحر الخاضعة لولايتها، وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، التي، بالمناسبة، لم تنضم إليها تركيا. في الوقت نفسه، يعتقد تانتشوم أن «المصالح الاقتصادية ومصالح النقل المشتركة للبلدين يمكنها أن تدفعهما إلى التوصل لاتفاقات على حلول وسط، فكلا البلدين بحاجة إلى السلام». بيد أن ليس اليونان ومصر فقط هما من يعارضان تركيا في صراعها على الموارد الطبيعية للمنطقة، بل إسرائيل وجمهورية قبرص وحتى فرنسا أيضاً، لكن أنقرة وباعتمادها على «الدبلوماسية العسكرية» تتجاهلها جميعاً. في الوقت نفسه، ترى الحكومة التركية أن جمهورية شمال قبرص التركية، التي لم تحصل على اعتراف دولي، لها الحق في المطالبة بمنطقة اقتصادية خالصة، خاصة بها في حوض البحر المتوسط.
من الواضح أن ديناميكية توسُّع السياسة الخارجية لأنقرة ستعتمد على التقلبات في مستوى الدعم الداخلي لإردوغان. يرى ماكس هوفمان من «مركز التقدم الأميركي – Center for American Progress» أن الرئيس التركي يفقد الدعم الداخلي تدريجياً تحت وطأة الانكماش الاقتصادي، وعواقب جائحة فيروس «كورونا» وارتفاع البطالة وأزمة اللاجئين السوريين (حيث يبلغ عددهم في تركيا 4 ملايين لاجئ)، والمشكلة الكردية التي لم تُحل بعد، وغيرها من الأزمات. كما أن وجود القوات التركية في العراق وسوريا وليبيا وضرورة دعم 3 ملايين مدني في شمال سوريا يؤثر أيضاً على الدعم الداخلي. لقد بات المحافظون الشباب أكان من داخل حزبه (حزب العدالة والتنمية)، الذي يعتمد على دعمه إردوغان، أو من معسكر شركائه، يفكرون بشكل متزايد في شخصيات بديلة أو خليفة له.
ومع ذلك، فإن خزان دعم إردوغان لم ينفد بعد. لا يزال له تأييد بين السكان، على الرغم من انخفاضه. فإذا كان، حسب استطلاعات الرأي التي أجراها «مركز التقدم الأميركي» بالاشتراك مع منظمة «Metropoll»، في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، فقط 21% قد استطاعوا أن يتخيلوا وجود أي شخص آخر غير إردوغان كرئيس للبلاد، فإن نسبة هؤلاء الأشخاص وصلت في أبريل (نيسان) 2020 إلى 37%. ولا يزال مساره القومي ومشروعه يحظى بدعم.
أما بالنسبة للموقف الداخلي لسياسته الخارجية في المنطقة، فإنَّ حقيقة انضمام تركيا تحت قيادته إلى صفوف الدول المصدّرة للغاز سيسهم في توفير الدعم، لكن لن يخلصه من مخاطر جدية.

 

* رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو

 

نقلا عن الشرق الاوسط

 

زر الذهاب إلى الأعلى