الشاعر جاسم سيف الدين ولائي : إنهم يضيئون حياتي ويجعلونها جديرة بإن تعاش
حاورته /الدكتورة اسيل العامري
– بين القراءات الاولى للكتاب المدرسي وقصص الطفولة المبكرة ينتقل القارئ العربي عموما والعراقي على وجه الخصوص الى أمهات الروايات الكبيرة .. هل هي تعويض عن مرحلة المراهقة ام اختزال لها ام سوء تخطيط؟
نعم قلت هذا حين صنّفت أحد كتب اليافعين بأنه يصلح للقارئ في سن يقع ما بين (12-14) عامًا، لكننا كعرب لا نفي أطفالنا حق أعمارهم. وحين اعترض أحد الحاضرين بأن الطفولة مرحلة. قلت بل هي مراحل واللغة مراحل والكتاب أيضًا مراحل ولكل سن ما بين ولادة الطفل وبلوغه الحلم كتابه ولغته وأحيانًا كاتبه الخبير بالشأن الأدبي وعلم نفس الطفل. أما سبب القفزة من الكتاب المدرسي وبعض كتب وكراسات الطفولة القليلة إلى كتب الكبار فالسبب في ذلك الأسرة التي لم تفكر بالكتاب الذي ينتزع الكثير من ميزانيتها واقتصادها، هذا في حال تكون الأسرة متعلمة، وكذلك انعدام البديل في المدارس الابتدائية التي لا تتوفر فيها مكتبة مدرسية، وندرة زيارات المكتبة المتجولة التابعة لوزارة التربية والتعليم للمدارس. أتذكر خلال سنوات المرحلة الابتدائية في بغداد، لم تزر حافلة المكتبة المتجولة مدرستنا سوى مرة وحيدة ولم يتركنا موظفوها نختار الكتاب الذي نريد قراءته، بل وزعوا علينا الكتب حسبما اتفق ومنحونا من الوقت نصف ساعة للقراءة بعدها استعادوا الكتب منا.
الطفل يفتح عينيه على مكتبة الأبوين أو الجد ويقرأ ما يقرأه الأبوان والجد. وأجمل ما في الأمر حالة الدهشة والغبطة حين يحاول الطفل فك طلاسم العالم القرائي للأب والجد في كتب نجيب محفوظ، عباس العقاد، طه حسين، والمنفلوطي وجبران ومصطفى جواد وغيرهم الكثير.
إذن هو الإهمال وسوء التخطيط في عدم وجود نظام كامل يشرع لكتاب الطفل ويبني مؤسساته الفاعلة الرصينة.
– ما رايك بـ (رجولة) الأطفال.. هل هي ما جعلتنا شيوخا قبل ان نكون مراهقين؟
كانت لنا كجيل مواصفات متنوعة تحدد استحقاقنا للقب التشجيعي (رجل، سبع، شاطر، عافرم، برافو وأحسنت إلى آخره)، تختلف كل مواصفة عن الأخرى حسب مستوى تعليم الأسرة وجذورها المدينية أو الريفية أو البدوية، محتوى هذه المواصفات إيجابيها وسلبيها عبارة عن مجموعة من أوامر ونواهٍ من قبيل: ادرس، انجح، احصل على أعلى الدرجات وأكبر قدر من إشارات التشجيع من المعلمين على دفترك، تأدب أمام الأكبر منك سنًا، لا تكذب، لا تضرب أحدًا، أو اضرب من يبدأك العدوان وأحيانًا أضرب دائمًا ليخشاك الآخرون. هذه هي البطولة التي كان يلقنها الآباء إيانا. هذه المواصفة المتوارثة للأسف لم تشر مطلقًا إلى التعاون والحرص على العمل كفريق، وهو أهم شروط النجاح والابداع والحياة المنتظمة المستقرة، ولا يخفى على أحد أن كل بحث علمي مهم وكل عمل إبداعي لفت إليه اهتمام الملايين، وكل إنجاز حضاري قفز بالعالم خطوة كبيرة وغير في حياة البشرية إلى الأفضل كان وراءه فريق عمل جاد ومخلص حتى لو كان فكرة لفرد ما، بما في ذلك الانجازات التي استحقت الجوائز العالمية الكبرى، خاصة جائزة نوبل، وربما يقول قائل إن العمل الأدبي هو شأن ذاتي يخص الأديب وحده، ولا يحتاج إلى فريق عمل.
العمل الأدبي بالذات يحتاج إلى جيوش من النقاد ووسائل الإعلام والمترجمين ودور النشر والقراء ليصل إلى صرح نوبل العالمي كخطوة أولى لترشيحه للجائزة.
أما نحن كشيوخ، ربما في العراق كنا سنحظى بهذه المهابة التي خسرناها حالما انتقلنا إلى عالمنا الجديد. أبناءنا لا يحتاجوننا حتى كمستشارين صغار، اليوم لدينا آلاف الأسئلة إجاباتها لدى أبنائنا وبناتنا، وهم يجيدون التعامل مع أدوات الحاضر أكثر منا. إنهم يملكون أكثر مما نملك، لأنهم تعلموا في ظروف طبيعية، أكثر مما تعلمناه نحن في زماننا، وهنا تكمن رجولتهم.
– ثمة في ذاكرة أي منا بستان خصب متروك هو الطفولة.. من رواية (قلب جدتي نحاسة) هل مازال ذلك البستان خصبا عند جاسم الولائي؟
بستان الطفولة الخاص بي يزداد خصبًا وثراء وعمارًا يومًا بعد آخر، يا للمفارقة ماضٍ يتطوّر ويزداد بناؤه وضوحًا، والآخرون يرونه جامدًا. أحيانًا أختبر ذاكرتي في إعادة رسم المدينة الصغيرة التي ولدت فيها وغادرتها إلى خارج العراق، في استعادة درابينها واحدة بعد الأخرى، مدارسها، مقاهيعا، أطباءها، صيدلياتها وأفرانها، وبيوت حوالي خمسين عائلة من الجيران حسب الترتيب الذي كانت عليه قبل خمسين سنة، وأعيد بذلك صناعة وترتيب ذلك العالم الرائع الذي ما زال يبهرني جماله وحيويته.
من الطريف أن رواية (قلب جدتي نحاسة) التي كانت أحداثها تدور عام 1964 والتي أهديتها إلى روح جدة أحد أصدقاء طفولتي لوالدته، وهو أستاذ جامعي اليوم، عن طريق هذه الرواية عثر على بريدي الإلكتروني بعد فراق زاد على الأربعين عامًا، فكتب لي وأعاد الصلة بيننا كأصدقاء. في لقاءنا في بغداد سألني كيف عرفت اسم والدته الذي ورد في إهداء الرواية. أجبته: هل تتذكر حين كنا في الصف السادس الابتدائي عام 1964 وكنت أنا مراقب الفصل، حينها جمعت دفاتر نفوس جميع تلاميذ الفصل لتقديمها إلى مدير المدرسة ليصدر بطاقات الامتحان الوزاري، أول ما قمت به وقتها دوّنت أسماء أمهاتكم جميعًا في قائمة وحفظتها غيبًا كما أحفظ حتى اليوم قصائد القراءة الخلدونية للصف الثاني. وأتذكر كل طالب ارتدى وشاح فارس الصف.
– لماذا فضحت سر النار لهيننغ مانكل؟
هذه الرواية هي التي منحتني الكثير، وأفضل عطاءاتها فوزها بجائزة أفضل كتاب في الإعداد والترجمة في المعرض الدولي للكتاب في الشارقة الدورة 29 لعام 2010 وحيازتها على شهادة تقديرية. وقبلها عام 2007 كانت ضمن أفضل عشرة كتب للأطفال والشباب في معرض القاهرة الدولي للكتاب.
الرواية بلغتها السويدية كانت موجودة في مكتبات معظم المدارس في السويد ووزعت مجانًا على طلبة المرحلة المتوسطة، وقد قرأتها ابنتي الوسطى صابرين ضمن من قرأها فاقترحت علي أن أترجمها إلى العربية لأنها أرادت لطلبة العراق أن يقرؤها لأهميتها، والطريف أن الرواية بنصها العربي موجودة الآن في كل أنحاء العالم ما عدا العراق الذي توجد فيه نسخة يتيمة من طبعتها الأولى تملكها مكتبة الطفل في بغداد.
ليتني وآخرين غيري نفتح الستارة على هذا العالم الثري الجميل، ونحل ألغازه، عالم الأدب السويدي.
– بتحولك من الشعر الى الرواية هل غادرت الايجاز الى التفاصيل؟
ما زلت شاعرًا ولم أفارق كتابة القصيدة، لكن أقل بكثير من السابق. بدأت الحكاية حين أعلن أمراء الطوائف في العراق حربهم الضروس على العراق وكل ما فيه من جمال وصدق وشرف، خاضوا حربهم بدموية منفلتة وبلا ضمير، وأدخلوا غرباء من البدو والحضريين في هذه اللعبة التي قتل فيها العديد من أقاربي وأبناء أصدقائي، بعضهم قتل مباشرة والبعض الأخر كمدًا وحزنًا على قتولهم الشابة. وقتها لم يعد للإيجاز الشعري دور ونفع في مواجهة ثرثرة الدم وطوفانه الذي وصل إلى حدائق البيوت والفصول المدرسية. لم أكن شاعرًا وحسب وقتها، كنت صحفيًا أيضًا أكتب للصحافة وبعض الإذاعات بانتظام. طويت صفحة الصحافة السياسية وللأبد، لأن بذاءة ما كان يحدث في العراق تحتاج إلى بذاءة مثلها وربما أكبر، وسيكون الأمر أشبه بلعبة قرود السيرك التي لا تترك أثرًا سوى سخرية وشماتة صانعي المشهد الدموي ومن يحرك دماه ويرقّصها، وهم يحيطون بحلبة الصراع الغبي مشجعين ومصفقين. فاتجهت لكتابة روايتي الأولى لعبة الشيخ لتتحدث عن زمن أقل تلوثًا مما كنا نعيشه من أحداث. رواية لعبة الشيخ تتحدث عن دكتاتورية علمانية كفرت بالدين وقاتلته بشراسة زمنًا طويلاً، وحين احتاجته أنزلته من رفوف المتاحف ونفضت الغبار عنه وأعادت تأهيله وتوظيفه، وبدأت ترتكب الجرائم وتخوض الغزوات باسمه وتحت رايته. لم أوجز في سخريتي في رواية لعبة الشيخ من السياسيين ممن شاركوا أو لم يشاركوا في إدارة رحى الدم العراقي، ولم أوفر حتى العقلاء والمتوازنين وأصحاب الصوت الهادئ منهم.
– ماذا تبقى من (الطفل) جاسم الولائي الآن؟
في اليوم الأول من وصولي إلى السويد حين دخلت أول حديقة عامة وكنت في السابعة والثلاثين، رأيت الأراجيح التي تطير عاليًا في الهواء، واكتشفت أنها مجانية ولا أحد يستثمرها وينتزع الدراهم وعشرات الفلوس من جيوب الأطفال لقاء استخدامها كما يحدث في بلادنا العربية العظيمة، طار عقلي فرحًا مع بندول الأرجوحة الرائح الغادي. صحيح أنني كنت أستخدمها وأتأرجح معها فترات طويلة حتى الشبع نسبيًا، لكنني كنت أستخدمها بوقار رجل يقترب من الأربعين، وأب ودود يضع طفله أو طفلته في حضنه ليتأرجحا ويلعبا معًا، وحين كبر الأولاد والبنات، صرت أستخدمها بنفس الوقار مع الحفيد والحفيدة.
من بقايا الطفولة أيضًا مشاكسة طفلة عراقية لسانها طويل في الرابعة من العمر، أتمتع بالإصغاء إلى ردة فعلها وكلامها، حين أراها جالسة تلعب أسمعها بعض الكلام من قبيل أن السويد قد خربت حين لملمت هذه الأشكال، فتصرخ منادية أباها وأمها، تعالوا واسمعوا ما يقوله هذا الجدو الذي تحبونه، وتضيف محاولة إقناعي واصفة جمالها وذكاءها وشطارتها وتحضرها، وتسألني ما الذي لا يعجبني فيها، وتختم بجملتها الدائمة: لا أستطيع أن أقول شيئًا، المشكلة أنا أحبك أيضًا.
صحيح أن ما بيني وبين الطفولة شريطًا طويلاً من السنوات، لكنني بموقف لحظة أستطيع أن أقصّ 50 عامًا أو أكثر من هذا الشريط وأعود طفلاً.
للطفولة مستقبل في نفسي. طفولتي هي مستقبلي المفتوح وليس ماضيي المطوي.
– في روايتك لعبة الشيخ .. بمن لعبت انت؟
لعبت بالكثير من الناس، ومع الكثير ووصفت بإسهاب كيف كان صدام حسين ونظامه الدكتاتوري وأعوانه جهلة وأذكياء يلعبون بشعبنا متوهمين أنه قطيع بلا عقل وبذاكرة ممسوحة بما أسموه الحملة الإيمانية.
لعبت مع رجال الدين وقتذاك نفس اللعبة التي يلعبونها على الناس. بالإعلام ورموزه بالسياسيين يمينًا ويسارًا، عربًا وكردًا، وبالعسكر والشرطة والحرامية، لعبت مع الحرب وكتبة التقارير ومرشدي الأجهزة القمعية الخاصة بالنظام العراقي، مع أصحاب القرار في حقبة ما بعد الاحتلال.
لعبت في الموصل وتكريت والبصرة وبغداد وسامراء وعلى جبهات الحرب العراقية الإيرانية وكردستان وبلاد المسقوف والهند وفارس.
مع أسرتي بدءًا بجدي لأبي الذي أبدلته بجد وهمي كان شيخًا مباركًا وخادمًا لجد صدام حسين العاشر، ذلك الجد صاحب المعجزات والفضل الكبير الذي فك الحبسة السرمدية في ألسنة أجدادي الخرس الذين كانت زوجاتهم تضربهم بالسلاح النسوي المعروف.
ولم أوفر والدي باسمه الصريح وشخصيته العامة، الذي توقع له جد صدام المبارك (ذو الجرار) أن يكون عالمًا صالحًا يخدم الملة والدين والدولة فانحرف وأصبح كاتب أغان يفيض بالغزل ووصف عيون النسوان.
لم أترك أحدًا إلا ولعبت به أو معه أو على الأقل أشركته قي لعبة الشيخ.
– يشاع عنك بانك مليونير.. كم تبقى من ملايينك الان؟
ملاييني مازالت في رصيدي ترتفع قيمتها وتزداد بهاءًا وجمالاً، وغالبًا ما أتابع الزيادة المستمرة لهذا الرصيد، وسأرى ما لدي في مدينة مالمو الجميلة قريبًا.
لنعد إلى هذه الملايين. كنت سعيدًا للغاية وكان أصدقائي من الشعراء والأدباء والإعلاميين وغيرهم ممتلئين بالسعادة والغبطة في أمسية تينستا بمناسبة صدور روايتي الأولى (لعبة الشيخ) خريف عام 2007، وبالأخص الشاعرين إبراهيم عبد الملك وجاسم محمد والمخرج المسرحي بهجت هندي والباحث د. عقيل الناصري. سألني الإعلامي الصديق د. محمد كحط الربيعي أنه لاحظ أنني غالبًا ما أشير إلى العديد من هؤلاء الأصدقاء في لقاءاتي مع الصحافة والتلفزيون وفي مقالاتي المنشورة في الصحافة. فأجبته أن أصدقائي هم بمثابة الأحجار الكريمة التي أزين بها كتاباتي، كل صديق هو جوهرة نفيسة لا تقدر بثمن. إنهم يضيئون حياتي ويجعلونها جديرة بأن تعاش. فقال تعال نستعرض أسماءهم ونثمنهم، قلت لا أستطيع، ليس بمقدوري التثمين لأن ميزانهم أرجح من ميزاني.
فأضاف معلقًا: إذن أنت مليونير!
نعم بأصدقائي.