د. عبد الرزاق محمد الدليمي: العـراقـيـون والـزمـن الجـميـل

بعد أن تركتُ بلدي في عام 2003 مجبرًا، مثل ملايين العراقيين الشرفاء الأصلاء، جمعتني الظروف بأعداد من الأصدقاء ذوي الميول والأمزجة والثقافات والمبادئ المختلفة. وعلقت في ذهني عبارة رددها أمامي أحد مسؤولي الحزب حينها (رحمه الله عليه)، حيث قال: “هذا الكلب ابن الكلب بوش، لماذا لم يحتل العراق عندما كنا شبابًا واحتله ونحن منتهو الصلاحية؟ خمس وثلاثون عامًا لم يبق فينا جسم سليم، أتعبتنا الواجبات والمهام وووو؟!” في ذلك الوقت ضحكنا جميعًا، إلا أنني كالعادة لم أترك الحوار دون أن أعلق على تلك العبارة، ولكن تعليقي كان في اتجاه آخر، فقلت: “إننا فعلًا تعبنا ومرضنا ونحن نخدم بلدنا وشعبنا، فلا ليلنا ليل ولا نهارنا نهار، قضينا حياتنا نواطير للشعب وخدامًا له وووو. وربما نحن المحسوبين على النظام الوطني قبل الاحتلال من القلة الذين لم يستخدموا مصطلح الزمن الجميل، لأننا في الحقيقة كنا نغوص في أعماق الواقع تنفيذًا لتوجيهات القيادة في خدمة الشعب والسهر على أمنه وووو”.
الزمن الجميل
سمعت هاتان الكلمتان كثيرًا جدًا، وازداد استخدامهما إلى درجة أن غالبية الشعب العراقي أصبحوا يطلقون على فترة ما قبل الاحتلال الأمريكي عام 2003 “الزمن الجميل”، على الرغم من طبيعة الظروف الاستثنائية التي مر بها العراق في تلك الفترة. وواضح جدًا أن العراقيين افتقدوا ذلك الزمن الجميل، وسيبقون يحنون إليه حتى يتمكنوا بجهدهم وصبرهم وعملهم من إعادة جوهره إلى حياتهم. وصراحةً، شاهدت بعض الأشخاص الذين تحدثوا عن الجزء الفارغ الصغير من الكأس ولم يقيموا منطقيًا أهمية حجم الجزء الممتلئ منه! وربما أراد كل منهم أن يترك انطباعًا لدى متابعيه بأنهم غير محسوبين على نظام الزمن الجميل قبل الاحتلال.
لماذا “الزمن الجميل”؟
- الشعور بالاستقرار والأمن: يتذكر غالبية الشعب تلك الفترة بشعور عالٍ بالاستقرار والأمن الشخصي مقارنة بالاضطرابات والعنف الطائفي الذي أعقب الاحتلال.
- كان النظام السابق يفرض سيطرة مركزية قوية، مما أدى إلى انخفاض معدلات الجريمة، بعكس الآن حيث الظاهر أن هناك كمًا هائلًا من الجرائم غير المسبوقة يرافقها أساليب قمع للحريات.
- الخدمات والبنية التحتية: يرى غالبية العراقيين أن الخدمات العامة والبنية التحتية كانت في وضع أفضل بكثير في تلك الفترة.
- كما كانت هناك تنمية انفجارية كبيرة ومشاريع في البنية التحتية وإنشاء للمدن والطرق، ويتذكر الجميع توفر جميع الخدمات الأساسية بشكل مميز حتى قياسًا مع دول المنطقة.
- التأكيد على الوحدة الوطنية: حيث سعى النظام حينها إلى فرض نوع من الوحدة الوطنية، مقارنة بالواقع الحالي.
- الحنين إلى الماضي: تلعب الذاكرة دورًا في استذكار الماضي وتناسي الصعوبات.
- لا سيما الجوانب الإيجابية الكثيرة التي يتذكرونها مقارنة بالقمع والظلم الذي أصبح سائدًا في العراق بعد احتلاله.
لذلك، عندما نحاول مقارنة ذلك الزمن الذي يطلق عليه العراقيون “الجميل” بالواقع الحالي، تبرز كثير من السلبيات الآن، منها أن الوضع السياسي والاقتصادي والأمني الصعب الذي يمر به العراق بعد عام 2003 لابد وأن يدفع العراقيين، حتى البسطاء منهم، إلى المقارنة مع الماضي، وهم يرون بأعينهم أن أغلب جوانب الحياة كانت أفضل بسقف عالٍ في ظل النظام السابق مقارنة بالفوضى والصراعات التي تلت الاحتلال. - الشعور بالفخر الوطني: سعى النظام السابق إلى تعزيز الشعور بالفخر الوطني والوحدة العربية، وقد يتذكر البعض هذه المشاعر بإيجابية.
- من المهم التأكيد على أن هذا “الحنين” لا يعني بالضرورة تأييدًا لسياسات النظام في ما أنجزه في بناء العراق ورفعة شعبه.
لذلك، فما يتحدث به كثير من العراقيين هو غالبًا تعبير عن خيبة الأمل والإحباط من الوضع الحالي في العراق وتوق إلى الاستقرار والأمن والوحدة التي فقدت بعد عام 2003. إنها مقارنة بين واقع غلبت عليه الإيجابيات بواقع الآن حيث تزداد الكوارث والتعقيدات كل يوم أكثر من سابقه، مع التركيز على الجوانب التي يرونها أفضل في الماضي.
طبعًا، نحن متأكدون أن من ارتبط وجودهم ومصالحهم بالنظام الذي أسسه الاحتلال لن تعجبهم تصريحات المواطنين وحنينهم لفترة “الزمن الجميل” قبل احتلال بلدهم، حيث كانت المميزات المهمة مثل الاستقرار الأمني المركزي وسيطرة حكومية قوية أدت إلى انخفاض نسبي في الجريمة الظاهرة في بعض الأحيان، وبنية تحتية وخدمات: مشاريع تنموية وجهود لتوفير بعض الخدمات الأساسية. ووحدة وطنية وفخر وطني وقومي وتعزيز الشعور بالفخر الوطني والقومي العربي.
أما نظام الزمن “المسيء”، أي النظام الحالي (بعد 2003): - فهو نظام يدعي الديمقراطية (نظريًا) ويمارس انتخابات دورية مزورة تنتهي في كل مرة إلى ذات المخرجات المضرة للبلد، ووجود أحزاب أبعد ما تكون عن الولاء للعراق وشعبه، بل هي تصرح علنًا أنها تنتمي إلى إيران. أما حرية التعبير، فالاغتيالات والتغييب والاعتقالات والقمع والترهيب هي الهوية الأساسية المعلنة لهذا النظام.
- انفلات أمني وعدم استقرار: انتشار واسع للسلاح، ونفوذ الميليشيات، وعنف طائفي وإرهاب.
- فساد مستشرٍ: مستويات عالية من الفساد الإداري والمالي تعيق التنمية.
- غياب الخدمات العامة: تدهور كبير في قطاعات الكهرباء والمياه والصحة والتعليم.
- الانقسامات السياسية والطائفية والصراعات المستمرة بين الكتل السياسية والمكونات المختلفة.
- تدخلات خارجية: تأثير كبير لدول إقليمية ودولية في الشأن العراقي.
- انتشار البطالة وتدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة وتراجع الأوضاع المعيشية للكثير من السكان.
- هجرة الكفاءات ونزيف مستمر للعقول والكفاءات بسبب الأوضاع غير المستقرة.
إذن، المقارنة بين الفترتين معقدة وتعتمد، بالنسبة لمن لا يحبون أن يسمعوا عبارة “الزمن الجميل” من أفواه العراقيين، على منظورهم الشخصي وتجاربهم الفردية. فالمواطن العراقي البسيط أصبح على قناعة أن “الزمن الجميل” يعني استقرارًا وأمنًا مفقودين الآن، وانتشار القمع والظلم الذي أصبح سائدًا.
في المقابل، فشل النظام الحالي في تحقيق أي من ادعاءاته بتوفير الحريات والديمقراطية غير الموجودة، ناهيك عن أن هذا النظام كان وسيبقى يعاني من تحديات كبيرة في تحقيق الأمن والاستقرار وتوفير حياة كريمة للمواطنين.
نعم، العراقيون يفتقدون “الزمن الجميل”، وهذا يعكس لديهم حنينًا للجوانب الإيجابية الكبيرة من الماضي ومقارنتها بواقع مأساوي صعب بعد الاحتلال، وهذا لا يعني بالضرورة أننا نزعم أن ذلك الزمن الجميل كان بدون بعض الهفوات والأخطاء، أو تبريرًا أو استحسانًا بكل جوانبه، رغم أن الإيجابيات كانت أكثر من السلبيات ببون شاسع.