بدوي من صحراء تونس يُدير مزرعةً للجِمال قرب مطار زيورخ
على مساحة خمسين ألف متر مربع من الأرض السويسرية الخضراء، التي لا تمت بصلة للبيئة الصحراوية، تحط منذ سنوات قرب مطار زيورخ الدولي، جِمال ونوق بدوي عربي مهاجر؛ ذلك هو التونسي كامل بن سالم، القادم من مدينة «دوز»، بوابة الصحراء التونسية ومهد مهرجانها الدولي للصحراء ومركز السياحة الصحراوية فيها.
مزرعة بن سالم للجِمال، في وظيفتها، ليست كأي مزرعة حيوانات أخرى، فخلق بيئة صحراوية من دون الصحراء أمرٌ ترفيهي، تراثي وثقافي قبل كل شيء في حسابات بن سالم الذي ولد في بيئته البدوية «المرازيقية» جنوب تونس وترعرع فيها بين الجِمال حتى عشقها وصار «يفهم عليها وتفهم عليه»، يسعد بسعادتها ويتألم لآلامها، يغلب عليه الفرح عند ولادة أحدها ويسيطر عليه الحزن عند مرض أو موت أحدها ويصعب عليه قضاء نهاره بعيداً عنها ولا يستطيع العيش بدونها أبداً.
المهمة هنا خلق بيئة بدوية تراثية تتلاقح مع الواقع الأوروبي وتجذب الأوروبيين إلى السياحة الصحراوية، أي إلى «توسيع بوابة التفاعل والتقارب الحضاري»، كما يقول بن سالم؛ في نفس الوقت تقدم المزرعة لأبناء الجالية العربية وأطفالهم الذين وُلدوا هنا بعضًا مما لا يعرفونه عن تلك البئية وعن «سفينة الصحراء»، رمزها الأبرز.
كمال بن سالم
swissinfo.ch تتبعت البدايات والخلفيات ونشوء الفكرة وظروف قيام المزرعة ومسارها، فجاءت الرواية على لسان بن سالم: «أنا بدوي عربي تونسي مرزوقي من مواليد العام 1977 في «دوز»، جنوب تونس، كان لديَّ هناك مكتب للسياحة الصحراوية، وكانت وظيفتنا استقبال السيّاح الأجانب ونقلهم من جزيرة «جربة» ومرافقتهم إنطلاقًا من دوز في جولات صحراوية يتعرفون خلالها على بيئة الصحراء وبهاء كثبانها الرملية ويقتربون فيها من طبيعة أهلها البدو وما فيها من كرمٍ وسماحة. في العام 1998 تعرفت على سائحة سويسرية ونشأت بيننا علاقة حب تكللت بالزواج، فانتقلتُ في العام 2000 للعيش معها في سويسرا. وبما أن موسم السياحة الصحراوية ينحصر بين أكتوبر ومارس من كل سنة فقد تركت مكتبي يعمل هناك وكانت الفكرة أن أذهب خلال هذه الأشهر لأقود الرحلات داخل الصحراء، بينما أقوم خلال الأشهر الباقية، من هنا في سويسرا، بتحضير الرحلات للموسم القادم وتنسيقها مع مكاتب السياحة في البلد مستعينًا بزوجتي ومعرفتي باللغة الفرنسية حتى تمكّني من الألمانية، لكن الأقدار شاءت أن تنكمش السياحة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ثمّ كادت أن تنعدم بعد غزو العراق في العام 2003، ففرض علينا ذلك أن نبحث عن اتجاهات أخرى. قلنا: "إذا كان السائحون لا يستطيعون الذهاب إلينا، فلنأتِ نحن إليهم." ومن هنا نشأت فكرة المزرعة فأقمناها في العام 2004 في كانتون شافهاوزن وكانت البداية بخمسة جمال، وفي العام 2009 انتقلنا بها إلى كانتون زيورخ، قرب مضمار الخيل في ديلزدورف، ثم في العام 2011 إلى هنا قرب المطار الدولي، وقد أصبح لدينا الآن 23 جملاً وناقة معظمها تربيتنا الخاصة، ولكننا للأسف لم نستطع جلب جمالٍ عربية بسبب القيود الموضوعة على الإستيراد».
وعن أبرز ما يلقاه الزائر من خدمات ومتعة في المزرعة يقول بن سالم: «نقدم معلومات وافرة للزائرين عن هذا الحيوان وطبيعته مبنية على خبرة أجيال، فجدّي كان لديه جِمال، ووالدي الذي يبلغ من العمر الآن 74 عامًا لديه جمال وعاش كل عمره معها، كما نقدم فرصة للصغار والكبار ليجرّبوا الركوب عليها في جولة تمتد لعشر دقائق، نبيع حليب النوق الذي يتميز بكونه صحيًّا أكثر من حليب البقر ويشكل بديلاً لمن يعانون من حساسية عند شرب الأخير، نقدم المأكولات الشرقية العربية للمجموعات بناءً على طلب مُسبق، حيث لدينا مطبخ خاص داخل المزرعة، وعند الضرورة، أي حينما يكون الطلب كبيراً، نتعاون مع مطعمٍ عربي، وقد بلغ الطلب ذات مرة حد خمس مائة شخص، فلبيناه على أحسن ما يرام، وكل ذلك يجري طبعًا داخل خيم مزينة بألوان وأشكال التراث البدوي؛ ونقدّم النقش بالحنّاء، وأحيانًا وصلاتٍ من الرقص الشرقي، إذا طلب أصحاب الدعوة ذلك مُسبقًا».
swissinfo.ch سألت بن سالم عن طبيعة هذه المجموعات التي تجذبها المزرعة فأوضح بأنها «تتكون أحيانًا من منتسبي شركات تقيم لهم شركاتهم رحلات للنزهة والترفيه، وأحيانًا هم زوارٌ مدعوّون في إطار حفل عيد ميلاد أو حفل زفاف يقرر العريسان إقامته في المزرعة، أو إدارات مدارس تجلب طلابها الصغار للتعرف على هذه البيئة ومحتفلون بأعيادٍ دينية مسيحية أو إسلامية، وغير ذلك».
وعن عدد العاملين معه في المزرعة وما يتطلبه تقديم كل هذه الخدمات من أيدٍ عاملة، قال: «ليس لديَّ سوى موظف واحد براتب ثابت، أما الباقون فيعملون حسب الطلب وأجورهم على الساعة، لكن في بعض الأحيان يتعدى عددنا العشرين فرداً، أنا أقوم بإعداد الطعام، حيث تعلمت ذلك على يد والدتي، والباقون يقومون بالمعاونة وتقديم الخدمات الأخرى وفقًا لتوجيهاتي، أما الرقص الشرقي فتقوم به راقصات أوروبيات تعلمن هذا النوع من الرقص، كذلك النقش بالحنّاء».
وسط هدير الطائرات التي تحط أو تقلع من المطار، والذي يختلط معه أحيانًا رُغاء الجمال، يواصل بن سالم حديثه لـ swissinfo.ch فيقول: «بالإضافة إلى كل ما ذكرت نحن نشارك في المناسبات العامة، كمهرجان الربيع التراثي السنوي في زيورخ (Sächsi Lüüte) الذي مثلنا فيه تونس عدة مرات من خلال مشاركاتنا مع أطفال تونسيين في الموكب المخصص للأطفال، وكذلك شاركنا في حملة التبرعات (jede Rappen zählt) التي تنظمها القناة الثالثة في الراديو العمومي السويسري سنويًّا لصالح موضوع هام في العالم، وكانت مشاركتنا تلك في حملة العام 2015 التي كانت مخصصة لصالح الشبيبة حيثما تعاني من ضائقةٍ في العالم».
«عندما يريد الانسان العيش في هذه البلاد مثل أهلها، ما عليه سوى أن يكون واحداً منهم، وأنا جئت إلى هذه البلاد لأكون واحداً من أهلها، لا لأكون عالةً عليهم»
نهاية الإقتباس
يضيف بن سالم: «كما إننا نسعى دائمًا لإقامة سباقات جِمال، هنا في سويسرا، أو في الدول الأوروبية الأخرى من خلال الإتحاد الأوروبي لسباقات الجمال، الذي أسسناه قبل عامين ويضم الآن أعضاء من تسع دول أوروبية وأحظى حاليًّا بشرف رئاسته، قبل ذلك نظّمتُ سباقاتٍ في ألمانيا وفرنسا وشاركتُ في فعاليات وسباقات أقيمت في العديد من الدول العربية».
في السياق كشف بن سالم أنه تقدم من المعنيين في هذه الدول باقتراحات لتنشيط الإهتمام بالجمال وسباقاتها في أوروبا من خلال الإتحاد الذي يرأسه، وقال: «كنت أتوقع أن تلقى الجمال اهتمامًا ودعمًا كما تلقاه الخيول، لكن للأسف لم يلتفت لذلك أحد».
تجدر الإشارة إلى أن «مزرعة بن سالم» تنظم خلال كل صيف، ومنذ العام 2011، مهرجانًا سنويًّا للجِمال يحضره المئات من الزوار الذين يستمتعون على مدى يومين متتاليين بفقراته المتنوعة. الدورة الثامنة من المهرجان أقيمت هذا العام في يومي 25 و26 أغسطس الماضي وتصمنت فقراتٍ من التراث التونسي قُدّمت بدعمٍ من وزارة السياحة التونسية. بن سالم دعا أبناء الجالية العربية لزيارة المزرعة التي "لا تفرض رسم دخول على الزائرين". وأعرب عن تمنياته بمشاركتهم خلال الصيف القادم في المهرجان السنوي الذي بلغ زواره هذا العام أكثر من 1500 شخص.
كمال بن سالم يجلس متأملا قرب ناقة في مزرعته بعد لحظات من انتهاء عملية الولادة.
(CARO NADLER )
على صفحة المزرعة في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» يتلقى بن سالم الكثير من ردود أفعال الزائرين وإشادتهم بماعاشوه من استمتاع وما لقوه من حفاوة وخدمات أثناء الزيارة ويقدم بعضهم مقترحات ويعبّر الآخر عن أمنيات، يتعامل معها بن سالم وفق حدود الممكن والواقع.
ومما لا يُغفل قوله هنا أن الكثير من السويسريين يُقدمون على المساهمة في رعاية جملٍ محدد، وذلك بدفع مبلغ سنوي باسمه يُمكن أن يزيد، لكنه لا يقل عن مائتين وخمسين فرنكًا. وفي هذا السياق، يقتضي التنويه بأن الجمال في مزرعة بن سالم يحمل كل منها اسمًا خاصًّا به وأن هذه الأسماء يُساهم الزوار في اختيارها من خلال مسابقة تُجرى بالتزامن مع فعاليات المهرجان السنوي.
بقي أن نشير في الختام إلى أن بن سالم كان قد اشتغل قبل ذلك في سويسرا «عاملا مساعداً» في قطاعاتٍ مختلفة كقطاعي الزراعة والبناء، خصوصًا في فترة تراجع السياحة، وأنه اجتهد كثيراً في تعلم اللغة وعانى ليصل إلى ما هو عليه اليوم، وهو ينطلق من فكرة هامة تقول: «عندما يريد الانسان العيش في هذه البلاد مثل أهلها، ما عليه سوى أن يكون واحداً منهم، وأنا جئت إلى هذه البلاد لأكون واحداً من أهلها، لا لأكون عالةً عليهم».. وهنا يكمن دون شك، سر نجاح أي مهاجر.
swi