نعيم عبد مهلهل : تقشير الموز في غرفة الاركان
حكي أن الاسكندر المقدوني وقد عقد العزم على غزو بابل، كان قد دعى الى اجتماع في خيمته. حين دخل عليه أحد قادته وبيده برتقالة، صرخ به: ارمها! حين تكون هنا يكون معك سيفك فقط! أسوق هذه الحكاية وأنا أضع ملفات افتراضية أمام أنظار أولئك الذين يبحثون عن سر سقوط قصور نمرود وصوامع قمحها بيد البرابرة (الدواعش) أنهم يحتاجون كثيرا الى شارلوك هولمز ليحل عقدتها.
فأنا أعرف أن مدينة هائلة يسرقها في غفلة سرية من الحفاة تفسير سقوطها واحد: مصطبة الرمل في غرفة الأركان لم يشرف عليها الاسكندر، بل ان من كان يؤشر بعصاه على بوابات الموصل والجهة الرخوة باتجاه الجزيرة وربيعة والحدود مع سوريا، كان يتكلم وبيده موزة قشرها لتو الجندي المراسل وحشرها بفمه وهو يعيش زهو شارة الركن متخيلا ان فرقتين ـ واحدة آلية وأخرى مشاة وألوف مؤلفة من شرطة تحت أمرة الوالي (النجيفي) ـ لن تبعدها عن مواقعها في الجانب الايسر والأيمن سرية مختلطة من الحفاة تشبه تركيب اول فيلق للمرتزقة في العصر الحديث (الفيلق الفرنسي)، لكنهم اليوم ملتحون نسوا جوازاتهم (شيشان، طاجيك، أوزبك، يمنيون، صعايدة، مغاربة، ومن كل قطر أغنية) في غرف نومهم في الحسكة ودير الزور وهم لا يصدقون أنهم سيمتلكون بلدا كان سنحاريب يحكم العالم منه. حزن سقوط الموصل بقشرة موز، حزن لن تشفي غليله لجنة تحقيق وتقصي حقائق، لأني أدرك أن العقاب لن يكون بمستوى ضياع البلد، وأن الاختصاص الدقيق في معرفة العلة غائب وسط الكثير من التجاذبات، وأشياء أدرك تماما أن سقوطها ليس مرهونا برجل بل بوضع نفسي وسياسي عام، ومن بعضه هذه الكماليات التي تملأ الذوق العسكري الذي جعل آمر الفوج يتسلم سبعين راتبا في الشهر. حزن الموصل تكرر في تكريت، في الأنبار، في شمالي ديالى، وحزام بغداد، وجراء تلك الملهاة التي لم يكتبها شكسبير أو سعد الله ونوس، بل كتبها قشر الموز، ضاع منا بلد كان هيرودوت يقول عنه: "اقرب المياه الى الشهد هي مياه ميزوبوتاميا"، لكنهم قربوها الى علقم الحزن والدمعة والنازحين. جلب لنا قشر الموز هذا خرابا على الخريطة العراقية، خرابا على المتاحف والتراث، خرابا على الأديرة والجوامع والكنائس، جلب لنا ما كان هنيبعل يتمناه لروما، لكن الفرق أن هنيبعل لم يصل الى روما وينال ما يريد، فيما وصلت داعش الى الموصل ونالت ما أرادت. لكن البركة بأخوة هدله، المحاربون الذين ينتمون الى فيالق سومر، وكربلاء، والضلوعية وهيت والأعظمية، فيهم تلك البركة التي جعلت المقدوني يحسب ألف حساب حين اراد بابل له مسكنا. والآن وقد حدث الذي حدث، ومثل كل عصر، قدر لهذا الوطن أن يذبح القرابين ويمنح الضحايا ليستعيد باحة البيت الذي كانت طفولتنا تلعب فيه (غميضة الجيجو).
كاتب واديب مقيم في ألمانيا