آراء

رشيد الخيون: كَهرمانة والأربعين حَرامِي.. الرمزية!

إذا لم تُنصف خصمكَ فلا صدقت بحديث ومقال. انتهت التعبئة ضد النظام السابق بتداعيه(2003/4/9)، فلم تبق جدوى لنسف كلّ ما قام به. نعم، المعارضة تحتاج إلى التسقيط فقط، ولكن بعد هدأة النفوس، والنعمة التي نزلت على المعارضة الإسلامية، لابد مِن إعطاء كلّ حقٍ حقّه، قدحاً أو مدحاً. تلك مقدمة للحديث عن رمزية نصب «كهرمانة والأربعين حَرامِي»، في زمن طوفان الاختلاس. 
بعد تغلب البعث على السُّلطة (1968/7/17) شُنت حرب ضد الاختلاس، كانت لجان التَّحقيق تفاجئ المديرين والمحاسبين، ومَن يثبت تورطه يُعتقل حالاً. جرى ذلك بنواحي العِراق كافة. ثم قضوا على العصابات والشقاة الذين عبثوا بأمن الناس، وحدوا مِن الوساطة، وكرسوا ذلك في أعمال فنيَّة، فشاع مقطع مِن مسرحية حينها يردده الفنان قاسم الملاك: «بيش تعينت؟ بالواسطة». 
ما أرجحه، كان وراء تشييد نُصبٍ لـ«كهرمانة والأربعين حرامي»، تلك الحملة. دُشن العمل فيها (1969) وأُنجز(1971)، بيد النَّحات العِراقيّ محمد غني حكمت(ت: 2011). تقف زوجة عليّ بابا مرجانة(كهرمانة) فوق الخوابي تملؤها ماءً. أما مناسبة الكتابة عن النُّصب، الذي طالما شاهدناه بساحة كهرمانة، تحطيمه بلاندكروز دفع رباعي
(2022/5/1)، عشية عيد العمال العالمي.

أتذكر في منتصف السَّبعينيات جفت الخوابي، فظهرت صحيفة «طريق الشَّعب» بكاريكاتور عميق بدلالته: ظهور رؤوس اللُصوص مِن أفواه الخوابي. فهل قصد الرَّسام وقتها اللُصوصية أم الماء؟ حينها لم تكن اللُّصوصية ظاهرة، لكن الماء كان ينقطع عن أحياء بغداد الشَّعبيَّة.

جسد النُّصب حكاية علي بابا، وهو ما أُضيف لـ«ألف ألف ليلة وليلة»، فبعض النسخ القديمة جاءت خاليةً منه، الكنز الذي عثر عليه الحَطاب علي بابا مصادفة. عندما شاهد لصوصاً أمام كهفٍ مغلق بصخرةٍ، يقولون: «افتح يا سمسم»، فأزيحت، ووضعوا الكنوز التي سرقوها داخل الكهف، ثم خرجوا بالعبارة نفسها، ولما ابتعدوا، اقترب الحطاب مِن الكهف وقال: «افتح يا سمسم» فدخل ونقل مِن الكنوز، وخرج بالعبارة نفسها. 

أخذ قاسم بابا علماً بثروة أخيه المفاجئة، ففهم السّر منه، وذهب، وقال: «افتح يا سمسم»، وبعد جمع ما جمعه مِن الكهف نسي العبارة، ولما عاد اللُّصوص قتلوه. جاء علي بابا ووجد أخاه مقتولاً داخل الكهف، فحمله ودفنه. 

بعدها أخذ اللصُوص يبحثون عمَن مات له قريب، كي يقتلوه، فتعرفوا على دار علي بابا، فجاء رئيسهم بهيئة تاجر زيت، تحمل قافلته أربعين خابية (البستوكة العراقيَّة)، وطلب مِنْ علي بابا المكوث عنده ليلةً واحدة، مع بضاعته، وكانت عصابته الأربعون مختبئين في الخوابي، إلا أنَّ كهرمانة شعرت بالحيلة، فملأت الخوابي زيتاً ساخناً، وأغلقتها عليهم، فانتهى أمر الأربعين حرامياً، ليصبح الحَطاب ثرياً بعبارة «افتح يا سمسم»(ألف ليلة وليلة). 

لم يمثل النَُصب لنَّا- آنذاك- سوى جماله، لكنَّه بعد تحول فاشية الاختلاس، عندما أخذ الجميع يتعامل مع المال العام بـ «مجهول المالك»، حتى ممن لا تعرف مذاهبهم هذه المقولة، صار النَُصب رمزاً، لزمن عنوانه الاختلاس، وللصحابيّ أنس بن العباس بن مرداس(ت: 18هـ)، وقيل لجده: «لا نَسَبَ اليَومَ ولا خُلّةً/ اتسع الخَرْقُ على الرَّاقِعِ/كالثَّوبِ إذْ أَنهجَ فيه البلى/أعيَا على ذِي الحِيلةِ الصَّانِعِ(ابن عقيل، شرح ألفية ابن مالك). أقول: لم نتوهم إذا قلنا: إنَّ الذين امسكوا بمفتاح كهف خزائن العِراق، وأهدوها لأحدث وأخبث مستعمر، لا يعتبرون عبارة «افتح يا سمسم» حكاية، بل حقيقةً يعيشونها، كلما فكروا بما كانوا عليه، وما آل الحال بهم إليه. 

الاتحاد الإماراتية

زر الذهاب إلى الأعلى