آراء

د. محمد السعيد أدريس: فرص «تصفير» العملية السياسية في العراق

الكل فى العراق، وربما خارجه، يعرفون أن العملية السياسية التي فرضها الاحتلال الأمريكي على بغداد عقب غزو العراق واحتلاله عام 2003 كانت «عملية مصنعة» خصيصاً من أجل «تأمين احتواء العراق»، أي من أجل تأمين منع نهوضه مرة أخرى. فهذه العملية استهدفت الحيلولة دون عودة العراق إلى استلهام مشروع وطني يوحد العراقيين على قاعدة المواطنة المتساوية، باعتبار أن ظهور مثل هذا المشروع يعني إطلاق فرص انعتاق العراق من قيوده التي فرضت عليه، وكبلت أطرافه، وفرضت عليه الانكفاء الذاتي وانكسار الإرادة، وإعلاء شأن «الهوية الطائفية» على حساب «الوطنية العراقية الجامعة». فقد فرضت هذه العملية من خلال الدستور العراقي الذي جرى تصنيعه أمريكياً خصيصاً لتلك الأغراض، قاعدة «المحاصصة السياسية» بين من أسمتهم «مكونات العراق»، أي القوى والكتل العراقية والطائفية المكونة للعراق، وقسمت الوطن العراقي إلى شيعة وسنة وكرد، وعملت على اجتثاث كل جذور المشروع الوطني العراقي تحت غطاء «اجتثاث البعث»، وسلمت العراق للقوى الموالية للأمريكيين والإيرانيين.

هكذا خًطط للعراق أن تذرع في أحشائه بذور صراعاته وانقساماته، وأن تتأسس مصالح وقوى سياسية صاحبة حقوق تدافع عنها في تلك العملية السياسية، التي نجحت في إبقاء العراق على مدى كل تلك السنوات على سطح «صفيح ساخن» من الصراعات والانقسامات والولاءات.

والآن، وفي ظل الحراك الشعبي الجديد الذي يقوده مقتدى الصدر، وتياره الشعبي الواسع الذي احتل قاعة مجلس النواب العراقى، يوم السبت الفائت (30/7/2022)، في ذات اليوم الذي كان مقرراً أن يجتمع فيه البرلمان لانتخاب رئيس جديد يتولى، بعدها تسمية رئيس الحكومة الجديدة الذي اختاره «الإطار التنسيقب»، وأنهى بذلك هذا الطموح، هل بات ممكناً الطموح في أن يتمكن مقتدى الصدر من إلغاء العملية السياسية المفروضة على العراق برمتها منذ عام 2003، وأن يؤسس لعملية سياسية جديدة تحقق طموحات العراق في مستقبل مازال يحلم به، أم لن يستطيع القيام بهذه المهمة، وأن الأرجح أن يضطر إلى القبول «بتسوية ما» تحقق بعض المطالب، وترجئ بعضها الآخر، أي الوقوع في أسر «عملية إصلاح» على حساب طموحات عملية التغيير الكبرى، أو ما يسمى ب«تصفير العملية السياسية»؟

حتى الآن، يمكن القول إن «الغموض» هو سيد الموقف في ظل كثافة الوساطات ومقترحات التسوية من ناحية، وحالة الاحتقان المتزايدة في مواقف الصدريين وزعيمهم مقتدى الصدر، الذين باتوا على قناعة بأن «الفرصة أضحت مواتية للتغيير» في ظل الاختلال الشديد في توازن القوى بين الصدريين في الشارع العراقي، وبين قوى «الإطار التنسيقي» الذي تتفاقم المنافسات بينها.

فقد وصف مقتدى الصدر ما يحدث في البلاد ب«الفرصة العظيمة لتغيير النظام السياسي والدستور»، وأضاف «كلي أمل ألا تتكرر مأساة تفويت الفرصة الذهبية الأولى عام 2016.. نعم هذه فرصة عظيمة لتغيير جذري للنظام السياسي والدستور والانتخابات»، وخاطب الصدر أنصاره «إنكم جميعاً مسؤولون، وكلكم على المحك: إما عراق شامخ بين الأمم، أو عراق تبعي يتحكم فيه الفاسدون والتبعيون وذوو الأطماع الدنيوية، تحركه أيادي الخارج شرقاً وغرباً». ولم يكتف الصدر بذلك، بل إنه دعا العشائر والقوات الأمنية والحشد الشعبي، وكل فئات المجتمع، إلى مناصرة الثائرين للإصلاح «لإنقاذ وطنكم وكرامتكم وهيبتكم».

وسط هذا التسخين يتوقع البعض أن يسير مقتدى الصدر في مشروعه التغييري، وأن يكون «يوم عاشوراء» المقبل موعداً لإصدار «البيان الأول» في «مشروع التغيير»، لكن أغلب التوقعات لا تعتقد ذلك لأسباب كثيرة؛ منها أولاً وجود قناعة تقول إن مقتدى الصدر ليس رجل مشروع سياسي بقدر ما هو ساع للسيطرة السياسية باسم تيار، وليس باسم «حركة وطنية» وإنه يتحرك ب«مزاجية شخصية انفعالية» أكثر من كونه محكوماً بعقلية ملتزمة بمشروع سياسي وطني. ومنها عزوف من يسمون ب«قوى تيار تشرين»، ويقصد بهم القوى السياسية التي قادت الشارع السياسي العراقي في أكتوبر/ تشرين أول عام 2019 مطالبة بالإصلاح السياسي والاقتصادي، وإقصاء الطبقة السياسية الحاكمة برمتها عن المشهد السياسي لمصلحة مشروع وطني ديمقراطي، عن دعم حركة مقتدى الصدر الراهنة، بسبب خلفيات سلبية للصدريين إزاء هؤلاء في أوقات حاسمة من حركتهم. هؤلاء يعتقدون أن «الصراع الحالي هو بين قوى طائفية على السلطة ومواردها، ومن غير المناسب زج الاحتجاج الوطني في أتون هذا الصراع»، وتتوجس معظم هذه القوى من «التقلبات الشديدة لزعيم التيار الصدري، وإمكانية انسحابه والانقلاب عليهم، في أي لحظة، على غرار ما حدث في السابق».

 وإذا أضفنا إلى ذلك الرفض المطلق لقوى «الإطار التنسيقي» المنافس لدعوة التغيير، واعتبارها «دعوة للانقلاب على الشعب والدولة ومؤسساتها وعلى العملية السياسية والدستور والانتخابات، وتعمدهم الزج بأنصارهم بعشرات الآلاف على أبواب المنطقة الخضراء لموازنة احتجاجات الصدريين من ناحية والتلميح من ناحية أخرى بإمكانية حدوث صدام دموى بين الطرفين»، فسوف يتأكد غياب الفرص أمام الصدر للتغيير، خاصة في ظل مقترحات للوساطة لها اعتبارها يمكن أن تحقق القدر الأكبر من المطالب وتحول دون حدوث انزلاق البلاد في حرب أهلية.

محمد السعيد أدريس

نقلا عن الخليج الإماراتية

زر الذهاب إلى الأعلى